رأي العلماء في الإسراف ... الإسراف في المباح

رأي العلماء في الإسراف

والإنفاق إمَّا على النفس والعيال، أو على من تجب أو تجوز عليهم الصدقة؛ فإن كان الأول فالإكثار منه بعد الاعتدال يعدُّ إسرافًا، وإن كان الثاني ما لم يظلم نفسه وعياله وورثته فيعدُّ سخاءً، والأول مذمومٌ والثاني محمود؛ لكن يحسن بالمنفق على من تجب له أو تجوز الصدقة أن يقسِم ولا يعطي كلَّه لواحدٍ؛ لفوائد يطول ذكرها.

وللعلماء فيما يكون إسرافًا وما لا يكون أقوالٌ:

قال ابن عباس: من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو سرف، ومن منع من حق عليه فقد قتر. وقاله مجاهد وابن زيد وغيرهما.

وقال عون بن عبد الله: الإسراف أن تنفق مال غيرك. قال ابن عطية: وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية، والوجه أن يقال. إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا.

وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوساطها، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله؛ لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك.

ونعم ما قال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف.

وقال يزيد بن أبي حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال، ولا يأكلون طعاما للذة.

وقال يزيد أيضا في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والبرد.

وقال عبد الملك ابن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية.

وقال عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله([1]).

فهنا كل إنسانٍ بحسب ما يطيق وبحسب زمانه وبيئته، إلا إن اضطر إلى محرم فعليه أن يمتنع إن كان في زمان أو مكان يختال الناس فيه بالثياب أو يشربون الخمر.. إلخ، فلتكن حالُه كحال عثمان وعبد الرحمن وسعد M إذا لم تكن كحال أبي بكر وعمر وعلي وأبي عبيدة -رضي الله عنهم  أجمعين -.

ثانيًا- الإسراف في المباح (من المأكل والمشرب واللباس):

قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: ٣١].

اختلف المفسرون في معنى الزينة في هذه الآية، وتدور أقوالهم حول مطلق اللباس؛ خاصةً مع اقترانها بالأكل والشرب، وهي ثلاثة لا يستغني إنسانٌ عنها، أو أفخر الثياب وأحسنها في الصلاة كلها فرضًا ونفلًا، أو ملابس الإحرام في الحج والعمرة؛ إذ كان الكفار يطوفون بالبيت عراة وتقول نساؤهم:

اليوم يبدو بعضُه أو كلُّهْ وما بدا منه فلا أحلُّهْ([2]) #تنسيق شعر#

والظاهر من أقوال العلماء في الزينة أنها اللباس الساتر النظيف، وليس المحلَّى بوشي ونحوه، ومما يدل لذلك كون الآية في ملابس الإحرام وليس فيها تحلية، وكره النبي ﷺ اللون الأحمر للرجال([3])وزينة النساء حرام إلا لمحارمهن.

إلا أن تحلية الثياب في غير الإحرام ليست حرامًا، بشروط:

1- ألا تشبه ثياب الرجال ثياب النساء، والعكس بالعكس.

2- ألا تكشف عورة بوصفٍ أو شفٍّ، وعورة الرجال من السرة إلى الركبة، وعورة النساء سائر الجسد.

3- ألا يكون فيها شيءٌ من الذهب أو الحرير للرجال، وبالنسبة للنساء إلا لمحارمهنَّ.

4- ألا تكون للمباهاة والعجب والخيلاء، ولا تحمل على شيء من ذلك بعد لبسها، فإن أحسَّ شيئًا من ذلك نزعها.

5- ألا يكون ثمنُها مما لا يطاق.. إلى آخر الشروط.

وفي قوله تعالى: ﴿ﭛ ﭜ﴾، في هذه الآية قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ولا تأكلوا حرامًا([4]).

وقال الإمام القرطبي: أي: لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرّم عليكم([5]). ويؤيد ذلك قوله تعالى -في الآية التي بعدها-: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: ٣٢].

وقال العلامة السعدي: ﴿ﭙ ﭚ﴾؛ أي: مما رزقكم الله من الطيبات ﴿ﭛ ﭜ﴾ في ذلك.. والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي، ولشرَهٍ في المأكولات التي تضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفُّه والتنوُّق في المآكل والمشارب واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام([6]). وقال الشيخ محمد علي الصابوني: أي: لا تسرفوا في الزينة والأكل والشرب بما يضر بالنفس والمال([7]).

أما قوله تعالى: ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾، فمما قيل في تفسيره: أي المتعدين حدود الله فيما أحلَّ وحرم([8])، وخصَّه بعضهم بالطعام والشراب([9])؛ فإن السرَف

يبغضه الله، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات؛ ففي هذه الآية الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب، والنهي عن تركِهما، وعن الإسراف فيهما([1]).

ثالثًا- التقتير في مقابل الإسراف:

فقد جاء التقتير ملازمًا للإسراف في كثير من نصوص الشرع، وكلاهما منافٍ للاعتدال الذي هو من روح الشريعة المحمديَّة وأحد مبادئها السامية؛ غير أن أحاديث بغض الله تعالى للإقتار وللمقترين ليست بالقويَّة؛ كقوله ﷺ لعمران بن حصين I: «يا عمران! إن الله يحب الإنفاق، ويبغض الإقتار، أنفق وأطعم ولا تَصُرُّ صرًّا فيعسر عليك الطلب»([2])، وقال السيوطي: وأخرج الحكيم الترمذي عن الزبير بن العوام قال: جئت حتى جلست بين يدي رسول الله ﷺ، فأخذ بطرف عمامتي من ورائي.

ثم قال: «يا زبير، إني رسول الله إليك خاصة وإلى الناس عامَّة، أتدرون ماذا قال ربكم»؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «قال ربكم حين استوى على عرشه فنظر خلقه: عبادي، أنتم خلقي وأنا ربكم، أرزاقكم بيدي، فلا تتعبوا فيما تكفّلت لكم فاطلبوا مني أرزاقكم.. أتدرون ماذا قال ربكم؟ قال الله تبارك وتعالى: أنفق أنفق عليك، وأوسع أوسع عليك، ولا تضيِّق أضيق عليك» الحديث، وهو طويل([3]).

وليس معنى ضعف أحاديث بغض اللهِ المقترين أن الإقتار يحبُّه الله، ولا أن المقترين لا يبغضُهم الله، وإنما الواجبُ الاحتراز منه؛ كونه مما لا خلاف على حُرمته، ثم إنه لا يبعد أن يكون مانعًا من محبته تعالى عبدَه المقتِر لهذه الأحاديث أو لغيرها مما يؤخذ من روح الشريعة.. نقول: لا يبعد أن يكون، ولا نقول: إنه مانعٌ من محبته تعالى.

خلاصة هذا المانع:

وإذن فالإسراف الذي يمنع من محبة الله تعالى عبدَه المسرف يكون بمعانٍ، منها:

1- الإسراف في الصدقة، وترك العيال عالة يتكففون الناس أعطوهم أو منعوهم، وحدها المنضبط الثلُث قياسًا على الوصية، أو طبقًا لرواية مسلم حديثَ سعد I([4]).

2- الإسراف في المأكل والمشرب والزينة، وحدُّها المنضبط الاستمتاع بها بشروطها وآدابها المفصلة في السنة المشرفة.

3- الإسراف في الذنوب، وهذا بارتكاب الكبائر من أنواع ذنوب فرعون وآله وقوم لوط، والتمادي في الصغائر والإصرار عليها. وقد تظاهرت على ذلك آياتُ الكتاب الحكيم. وتناول الحرام من هذا القبيل.

4- تحريم الحلال، وهو منافٍ لحدِّ الزهد المعلوم من حال النبيين والصالحين؛ كتحريم صنفٍ بعينه قياسًا على فعل يعقوب S ولا يجوز في شريعتنا، أو تحريم الشبع، أو تحريم أكل كل ما يُشتهى بناءً على أحاديث واهية، أو فهمًا لأحاديث ثابتة فهمًا واهيًا. وإذا ترك بعض ما يشتهي -لا كلَّه- طلبًا لما عند الله أو تأديبًا لنفسه؛ فلا أرى بذلك بأسًا، ولو أكل وشكر كان أفضل أو مساويًا له، والله أعلم.

5- الإنفاق من حرام؛ فإن «الله طيِّب لا يقبل إلا طيبًا»([5])، وفاعل ذلك موزورٌ بكسبِه من حرام وغير مأجورٍ على إنفاقه.

6- التقتير، احترازًا من أمر محرم ومناف لصفات عباد الرحمن.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).


(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).


(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).


بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.