الإفساد في الأرض الحرابة ... مانع من موانع محبة الله عبدًا

الإفساد في الأرض الحرابة

حد الحرابة:

هذا، ويسمى الإفساد في الأرض حرابةً، أو هو داخل فيها. وقد قال الحق تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: ٣٣].

والسعي في الأرض فسادًا يطلق على أنواع من الشر.. قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب: إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض. يعني بذلك الربا، وقد سبق أنَّا اعتبرناه كذلك.

وإن ذلك يصدق على كلِّ من وقع منه ذلك، سواءً كان مسلمًا أو كافرًا، في مصر وغير مصر، في كل قليل وكثير وجليل وحقير، وإن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب، أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض.

ولكن لا يكون هذا حكمَ من فعل أي ذنب من الذنوب؛ بل من كان ذنبُه هو التعدي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم، في كتاب الله أو سنة رسوله؛ كالسرقة وما يجب فيه القصاص؛ لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه ﷺ من تقع منه ذنوب ومعاصٍ غير ذلك، ولا يجري عليه ﷺ هذا الحكم المذكور في هذه الآية، وبهذا تعرف ضعف ما روي عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية أنها الزنا والسرقة، ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ لهما حكمٌ غير هذا الحكم([1]).

وقد اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة؛ فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور: إن من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل، ثم ظُفِر به وقُدِر عليه؛ فإمام المسلمين فيه بالخيار؛ إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله.

وبهذا قال مالك، وصرح بأن المحارب عنده مَن حمل على الناس في مصر أو في برية أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة.. قال ابن المنذر: اختُلِف عن مالك في هذه المسألة؛ فأثبت المحاربة في المصر مرةً ونفى ذلك مرة. وروي عن ابن عباس غير ما تقدم، فقال في قطاع الطريق: إذا قَتَلُوا وأخذوا المال قُتِلوا وصُلِبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال؛ قُتلوا ولم يُصلبوا، وإذا أَخَذوا المال ولم يقتلوا؛ قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالًا نُفُوا من الأرض.

وروي عن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء -على اختلاف في الرواية عن بعضهم- وحكاه ابن كثير عن الجمهور، وقال أيضًا: وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة. وقال أبو حنيفة: إذا قَتَل قُتِل، وإذا أخذ المال ولم يقتل؛ قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه؛ إن شاء قطع يديه ورجليه، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه. وقال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء، ونحوه قول الأوزاعي. وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت.

ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلِّي؛ لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قَتَل قُتِل، وإذا أخذ المال وقَتَل؛ قُتِل وصلب، وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام. وقال أحمد: إن قَتل قُتِل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله؛ كقول الشافعي([2]).

قال الشوكاني: ولا أعلم لهذه التفاصيل دليلًا لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله؛ إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره، وتفرَّد بروايته فقال: عن يزيدَ بن أبي حبيبٍ؛ أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية([3])، فكتب إليه يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيِّين، وهم من بجيلة.. قال أنس: فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرجَ الحرام.

قال أنس: فسأل رسول الله ﷺ جبريل عن القضاء فيمن حارب؛ فقال: من سرق وأخاف الطريق؛ فاقطع يده لسرقته ورِجلَه لإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحلَّ الفرجَ الحرام فاصلبه، وهذا مع ما فيه من النكارة الشديدة لا يُدرى كيف صحته. قال ابن كثير -في تفسيره، بعد ذكره شيئًا من التفاصيل التي ذكرناها- ما لفظه: ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده، ثم ذكره([4]).

ثانيًا- عامةُ الفساد، وإفساد ذات بين المسلمين (زرع الفتنة بينهم):

قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: ٦٤].

قال الإمام الطبري([5]):﴿ﯣ ﯤ﴾ من بني إسرائيل: ﴿ﯥ ﯦ ﯧ﴾ يعنون أن خير الله ممسَك، وعطاءه محبوس عن الاتساع عليهم؛ كما قال -تعالى ذكره- في تأديب نبيه ﷺ: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: ٢٩].. يعني بذلك أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا ويمنعنا فضله فلا يفضل؛ كالمغلولة يده، الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف! تعالى الله عما قال أعداء الله؛ فقال الله مكذِّبَهم ومخبرهم بسخطه عليهم: ﴿ﯩ ﯪ﴾.. يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات وقبضت عن الانبساط بالعطيات.

﴿ﯫ ﯬ ﯭ﴾؛ أي: وأُبعِدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر وافتروا على الله، ووصفوه به من الكذب والإفك. ﴿ﯯ ﯰ ﯱ﴾.. يقول: بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خَلْقه، غير مغلولتين ولا مقبوضتين. ﴿ﯲ ﯳ ﯴ﴾.. يقول: يعطي هذا، ويمنع هذا فيقتّر عليه.

وعن ابن عباس قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثَقة؛ ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده -تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا-. وعن مجاهد في قول الله: ﴿ﯥ ﯦ ﯧ﴾ قالوا: لقد تجهَّدنا الله -أي جهدنا الله- يا بني إسرائيل، حتى جعل الله يدَه إلى نحره! وكذبوا! وعن قتادة: أما قوله: ﴿ﯥ ﯦ ﯧ﴾ قالوا: الله بخيل غير جواد! قال الله: ﴿ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾. وعن السدي: قالوا: إن الله وضع يده على صدره فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا.

﴿ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ﴾ يقول: والله لا يحب من كان عاملًا بمعاصيه في أرضه. قال عكرمة: نزلت في فنحاص اليهودي([6]). وعن الضحاك بن مزاحم: يقولون: إنه بخيل ليس بجواد! قال الله: ﴿ﯩ ﯪ﴾؛ أمسكت أيديهم عن النفقة والخير، ثم قال يعني نفسه: ﴿ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾، وقال: ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾.. يقول: لا تمسك يدك عن النفقة.

بقلم /محمد صقر 


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.