حكم الحلف بغير الله تعالى ... أنواع الحلف بغير الله
بقلم / محمد صقر
حكم الحلف بغير الله تعالى
قال ابن القيم: وكان هديه ﷺ أنه إذا صالح قومًا فنقض بعلمهم عهده وصلحه، وأقره الباقون ورضوا به؛ غزا الجميع، وجعلهم كلهم ناقضين، كما فعل بقريظة والنضير وبني قينقاع، وكما فعل في أهل مكة؛ فهذه سنته في العهد، وعلى هذا ينبغي أن يجري الحكم في أهل الذمة كما صرح به الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم. وخالفهم أصحاب الشافعي؛ فخصوا نقض العهد بمن نقض خاصة دون من رضي به وأقر عليه.
وفرقوا بينهما بأن عقد الذمة أقوى وآكد؛ ولهذا كان موضوعًا على التأبيد، بخلاف عقد الهدنة والصلح. والأولون يقولون: لا فرق بينهما، وعقد الذمة لم يوضع للتأبيد بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه.. والنبي ﷺ لم يُوَقِّت عقد الصلح والهدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة، وذلك قبل نزول الجزية.
فلما نزلت أضيفت إلى الشروط ولم يتغير الحكم، وصار مقتضاها التأبيد.. فالأقوال ثلاثة في الصورتين -أي الصلح والذمة- وهو الذي دلت عليه السنة في الكُفَّار، وعدم النقض في الصورتين، وهو أبعد الأقوال عن السنة، والتفريق في الصورتين. والأُولى أصوب الثلاثة، وبالله التوفيق([1]).
خامسًا: الحلف بغير الله تعالى:
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ L قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «احْلِفُوا بِالله وبَرُّوا، وَاصْدُقُوا؛ فَإِنَّ الله يَكْرَهُ أَنْ يُحْلَفَ إِلَّا بِهِ»([2]).
والحلف هو القسم بيمينٍ توكيدًا من الحالفِ للمحلوف عليه باسم من أسماء الله أو صفة من صفاته تعالى؛ كالرحمن والرحيم والملك، وكقدرة الله وعزته ورحمته سبحانه، ويترتب عليه أحكام شرعية كثيرة. ومنها الحلف بالقرآن؛ لأنه كلام الله، وكلامه D أحد صفاته، وبالكتب السابقة من توراة وإنجيل وزبور إن قصد الكتاب الحق المنزَل قبل تحريفه، ولم يرد عن السلف الحلف بها؛ فإن قصدها بعد التحريف لا يجوز، بل هو شنيع. ولا يجوز بأمانة المخلوقين؛ كما في حديث بريدة I أن رسول الله ﷺ قال: «من حلف بالأمانة فليس منا»([3]).
أما الحلف بغير ذلك، كالنبي ﷺ والكعبة وحياة الأب أو الأم؛ فلا تعد يمينًا شرعية، ولا يترتب عليه كفارة، ولا يجوز.. قال ابن عبد البر: «لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع».
واختلف فيما إذا كان النهي عن الحلف بغير الله تعالى للكراهة أو للحرمة؛ فذهب جمهور الشافعية وبعض المالكية إلى أنه للكراهة، بدليل قول النبي ﷺ عن الأعرابي: «أفلح وأبيه إن صدق»([4]).. قالوا: وهذا الدليل قرينة تصرف النهي عن الحلف بغير الله من التحريم إلى الكراهة.. قال النووي -من الشافعية-: النهي عن الحلف بغير أسمائه E وصفاته، وهو عند أصحابنا مكروه ليس بحرام([5]).
وأجاب الحافظ T بالقول: وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر المذكورة: «أفلح وأبيه إن صدق»، أو «دخل الجنة وأبيه إن صدق»، ولأبي داود مثله لكن بحذف «أو»؛ فإن قيل: ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب بأن ذلك كان قبل النهي، أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف.
كما جرى على لسانهم: «عقرى».. «حلقى»، وما أشبه ذلك، أو فيه إضمار اسم الرب؛ كأنه قال: «ورب أبيه»، وقيل: هو خاص ويحتاج إلى دليل، وحكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه قال: هو تصحيف، وإنما كان: والله؛ فقصرت اللامان. واستنكر القرطبي هذا وقال: إنه يجزم الثقة بالروايات الصحيحة. وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ: وأبيه، لم تصح؛ لأنها ليست في «الموطأ»، وكأنه لم يرتض الجواب فعدل إلى رد الخبر، وهو صحيح لا مرية فيه، وأقوى الأجوبة الأولان([6]).
وذهب الحنابلة وجمهور المالكية والأحناف وبعض الشافعية والظاهرية إلى أن النهي للتحريم، وهو الصحيح لكثرة أدلته؛ كحديث ابن عمر L أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم.. من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت»([7])، وحديث عبد الرحمن بن سمرة I؛ أن رسول الله ﷺ قال: «لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم»([8])، وحديث ابن عمر أنه سمع رجلًا يقول: لا والكعبة، فقال: لا يحلف بغير الله؛ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»([9]).
وحديث بريدة I السابق([10])، وحديث أبي هريرة I أن رسول الله ﷺ قال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون»([11])، وقول ابن مسعود I: «لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره وأنا صادق»([12]).. قال شيخ الإسلام ابن تيمية T: وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكبيرة؛ لأن الحلف بالله كذبًا من الكبائر، وبغير الله تعالى شرك.
وليس الحلف بغير الله محرمًا فحسب؛ بل هو شرك؛ ولكن هل هو أكبر أم أصغر؟ يقول الحافظ T: إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم؛ فلا يكفر بذلك ولا تنعقد يمينه([13])، أما إن لم يكن الأمر كذلك؛ فالحلف بغير الله من الشرك الأصغر الذي لا يخرج من الملة.
ولا تجب الكفارة على الحالف بغير الله ولا تنعقد يمينه؛ بل عليه التوبة ونطق الشهادة «لا إله إلا الله»؛ لحديث أبي هريرة I، أن رسول الله ﷺ قال: «من حلف منكم فقال في حلفه: باللات؛ فليقل: لا إله إلا الله»([14])، وحديث سعد بن أبي وقاص I أنه قال: «حلفت باللات والعزى، فقال لي أصحابي: بئس ما قلت! قلت هُجْرًا؛ فأتيت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له؛ فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وانفث عن يسارك ثلاثًا، وتعوذ بالله من الشيطان، ثم لا تعد»»([1]).
والحلف بالله يجب في الدعاوى وإثبات الحقوق، ويستحب لتوكيد الأمور الهامة ودفع التهم، كما في حديث الباب.. قال المناوي في شرحه: «احلفوا» ندبًا إذا كان الداعي للحلف مصلحة.. «بالله»؛ أي: باسم من أسمائه أو صفة من صفاته؛ لأن الحلف به مما تؤكد به العهود وتشد به المواثيق، «وبَرُّوا» -بفتح الموحدة- «واصدقوا» في حلفكم؛ «فإن الله» أكد بأن وضع الظاهر موضع المضمر تفخيمًا ودفعًا لتوهم المنع..
«يحب أن يحلف به»؛ أي: يرضاه إذا كان غرض الحالف طاعة؛ كفعل جهاد أو وعظ أو زجر عن إثم، أو حث على خير، وقد حكى الله تعالى عن يعقوب -عليه الصلاة والسلام- أنه طلب من بنيه الحلف حين التمسوا إرسال أخيهم معهم؛ فهو إذن منه في ذلك.
ولا يأذن إلا فيما هو محبوب مطلوب، ولا يناقضه قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: ٢٢٤]؛ فإن معناه: لا تكثروا منها. أو يحمل الحديث على ما إذا كانت في طاعة أو دعت إليها حاجة والآية على خلافه، وبذلك علم أنه لا تدافع.. قال النووي: يستحب الحلف ولو بغير تحليف لمصلحة؛ كتوكيد مبهم وتحقيقه، ونفي المجاز عنه، وقد كثرت الأخبار الصحاح في حلف المصطفى ﷺ في هذا النوع لهذا([2]).
ويكره الحلف بالله إذا أكثر منه لغير حاجة شرعية؛ لأن كثرة الحلف تدل على التهاون باليمين.. قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ﴾ [القلم: ١٠]([3])، وفي البيع والشراء كما سبق وتبين. ويحرم إذا كان كذبًا، بل هو كبيرة؛ لحديث عبد الله بن عمرو L أن أعرابيًّا جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: «الإشراك بالله». قال: ثم ماذا؟ قال: «اليمين الغموس». قال: وما اليمين الغموس؟
قال: «الذي يقتطع مال امرئ مسلم»؛ يعني: بيمين هو فيها كاذب([4])، وحديث ابن مسعود I أن رسول الله ﷺ قال: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه؛ لقي الله وهو عليه غضبان».. قال: ثم قرأ علينا رسول الله ﷺ مصداقه من كتاب الله D: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٧٧] إلى آخر الآية([5]).
وحديث إياس بن ثعلبة الحارثي I؛ أن رسول الله ﷺ قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه؛ فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة»، قالوا: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ فقال: «وإن كان قضيبًا من أراك»([6])، وحديث أبي ذر I أن رسول الله ﷺ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم». قال: فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مرار.
قال أبو ذر: خابوا وخسروا. من هم يا رسول الله؟ قال: «المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»([7])، وحديث عبد الله بن أنيس الجهني I؛ أن رسول الله ﷺ قال: «إن من أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح بعوضة؛ إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة»([8]).
ويجب على المسلم إبرار قسم أخيه عليه ما لم يكن ثم مانع، وكان قادرًا؛ لحديث: أمرنا رسول الله ﷺ بسبع؛ أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام([9]).. قال السندي T: «وإبرار القسم»؛ أي: جعل الحالف بارًّا في حلفه إذا أمكن، كما إذا حلف: والله زيد يدخل الدار اليوم. فإذا علم به زيد وهو قادر عليه، ولا مانع منه، ينبغي له أن يدخل لئلا يحنث القائل([10]).
نستخلص من هذا المانع، أي: مانع الكفر -والعياذ بالله- من محبة الله تعالى؛ أن الكفر الذي يمنع من محبته تعالى عبدًا من العباد يأتي بمعانٍ، هي:
-
عموم الكفر؛ أيًّا كان نوعه وشكله، وهو مقتضى آيةِ الروم.
-
كفر التولي والإعراض عن طاعة الله ورسوله ﷺ؛ كما في آية آل عمران.
-
استحلال الربا، وهو مقتضى آيات سورة البقرة.
-
القتل غدرًا وخيانة بعد إعطاء الأمان، وهو مقتضى آية الحج. ويجب أن يحترز من: القتل غدرًا وخيانة بعد إعطاء الأمان، ومن كفر النعمة، وهما مما يمكن أن تعنيه آية الحج؛ كما قاله بعض علماء الإسلام. والله أعلم.
-
الحلف بغير الله تعالى.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.
(13) «الأربعين النووية» لأبي زكريا محيي الدين النووي (المتوفى 676هـ) تحقيق: قصي محمد نورس الحلاق وأنور بن أبي بكر الشيخي ط1 دار المنهاج للنشر والتوزيع (ط. ت).
(14) «إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم» لأبي السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى 982هـ) ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت (د. ت).