حكم الغدر في الحرب .. هل يجوز الغدر في الحرب ؟

حكم الغدر في الحرب

بقلم / محمد صقر

 

حكم الغدر في الحرب

فالله تعالى حثَّ نبيه ﷺ على عدم الغدر في بدء المعركة لمن كان بينه وبينهم عهد.. قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: ٥٨] ([1])؛ فهذا دليل على وجوب الوفاء بالعهد حتى إذا أريدت الحرب. واتفق العلماء على جواز خدع الكفار في الحرب كيف أمكن الخداع؛ إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل([2]).

وحول فريضة الجهاد، أو بشكل أعم حول العلاقة بين المسلمين وغيرهم، تجادل الناسُ كثيرًا، وذهب كل فريق مذهبًا مغايرًا لمذهب الآخر؛ بل أحيانًا مناقضًا له، مع أن الأمر محسوم في آيتين متتالين من سورة الممتحنة المدنية النازلة بين يدي فتح مكة، وقد اتفق العلماء على الخط العام لتفسير هاتين الآيتين، وهما: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 8) . (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 9) . [الممتحنة: ٨، ٩].

قال المفسرون: إن هاتين الآيتين نزلتا في خزاعة وقريش حينما حالفت خزاعةُ المسلمين وعادتهم قريش بعد صلح الحديبية، وأَظهَرُ منه أن الآية الأولى في أم أسماء بنت أبي بكر L التي جاءتها مشركة في المدينة، فاستأذنت أسماء رسول الله ﷺ في صِلتها، فقال لها: «صِلي أمك»([3]). والآية الأخرى في عتاة المشركين.

وقال المفسرون: إن الآية الأولى في نساء وصبية الكفار، والثانية في عتاتهم المحاربين الكائدين للدين وللمسلمين بالقتال أو الإخراج من الديار أو المعاونة على أيٍّ منهما([4]).

نعم، إن أول مبادئ هذا الدين الخاتم هو التوحيد، وإن علاقة المسلمين بغيرهم قائمة على هذا المبدأ؛ حيث «أوثق عرى الإيمان الحب في الله»([5]). لكن هذا ينبغي ألا يتعارض مع مبادئ الإسلام الأخرى؛ من حيث إنه «الحنيفية السمحة»([6])، وينبغي العلم بأن هذين المبدأين لن يتعارضا إلا إذا أُفرِط في أحدهما على حساب الآخر؛ فبعض المسلمين اليوم يوالون الكفار من دون وقوف على درجة الموالاة، وهذا مضاد للتوحيد، كما أن بعضهم يعادونهم إلى درجة عدم الإقساط إليهم؛ مما ينقض سماحة الإسلام.

يقول العلامة المحقق ابن القيم: ولما قدم النبي ﷺ المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام:

1- قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه؛ وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.

2- وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة.

3- وقسم تارَكوه؛ فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه. ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارَهم، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون. فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى([7]).

قال -في تفصيل هذا الكلام-: أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، ذلك أول نبوته؛ فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بالتبليغ. ثم أنزل عليه ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ ، (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر: ١، ٢]. فنبأه بقوله: ﴿اقْرَأْ﴾، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين؛ فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويُؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم أُذِن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كلُّه لله.

ثم كان الكفار معه -بعد الأمر بالجهاد- ثلاثة أقسام:

1- أهل صلح وهدنة.

2- وأهل حرب.

3- وأهل ذمة.

فأُمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد؛ فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد.

وأمر أن يقاتل من نقض عهده. ولما نزلت سورة «براءة» نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها؛ فأمره فيها أن يقاتل عدوَّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين، والغلظة عليهم؛ فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان.

وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:

1- قسمًا أمره بقتالهم؛ وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم.

2- وقسمًا لهم عهد مؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه؛ فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.

3- وقسمًا لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق؛ فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر فإن انسلخت قاتلهم. وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة: ٥].

فالحُرُم هاهنا أشهر التسيير.. أولها يوم الأذان؛ وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر.

وليست هي الأربعة المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّعِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: ٣٦].

فإن تلك واحدٌ فرد وثلاثة سرد.. رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم، ولم يسير المشركين في هذه الأربعة؛ فإن هذا لا يمكن لأنها غير مُتوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر. ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم؛ فقتل الناقض لعهده، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهدَه إلى مدته؛ فأسلم هؤلاء كلهم، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم؛ وضرب على أهل الذمة الجزية.

ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام؛ فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه؛ فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم آمن، وخائف محارب([8]).

وإن هذه الأصناف الثلاثة هي ما استمر إلى وفاة النبي ﷺ، وعمل عليه خلفاؤه الراشدون ومن خلَفهم؛ ثم حدث ما نحن فيه من تفكُّك الدولة الإسلامية وسقوط الجزية، غير أن الناس لا يزالون على مثل هذه الأصناف الثلاثة؛ مسلم ومسالم وخائف، فينبغي أن يعامل الناس بمثل ما كانوا يعامَلون به؛ فالمسلم بالموالاة والحب والتعاون، والمسالم غير المسلم بالتبري والبغض لكن بغير اعتداءٍ ولا قتال، والخائف المحارب بالتبري والبغض والقتل. ثم يجب في النهاية العمل على توحيد الدولة وتطبيق شرائع الإسلام ومنها الجزية.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).


(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.