مفهوم الكفر وأنواعه .. الفرق بين الأكبر والأصغر
بقلم / محمد صقر
مفهوم الكفر
الكفر -في العربية- التغطية والستر، والكفر شرعًا: ضد الإيمان؛ فإن الكفر عدم الإيمان بالله ورسله.. سواءً كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب؛ بل شك وريب أو إعراض أو حسد أو كِبر، أو اتباع لبعض الأهواء الصادَّة عن اتباع الرسالة، وإن كان المكذِّب أعظم كفرًا. وكذلك الجاحد المكذب حسدًا مع استيقان صدق الرسل([1]).
وكفر الرجل كفرًا وكُفْرانًا: لم يؤمن بالوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة، أو بثلاثتها. وفي التنـزيل العزيز: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [العنكبوت: ١٢].
ويقال: كفر بالله أو بنعمة الله؛ وفي التنـزيل العزيز: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨]، وفيه أيضًا: ﴿ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ﴾ [النحل: ٧٢]، كما يقال: كفر نعمةَ الله؛ فهو كافِر.. الجمع كُفَّار وكَفَرَة. وهو كَفَّارٌ أيضًا، وهو وهي كَفُور.. الجمع كُفُر، وهي كافرة.. الجمع كوافِر. وكفر بهذا: تبَرَّأ منه، وكفر الشيءَ وعليه كفرًا: ستره وغطاه؛ ويقال: كفر الزارع البذر بالتراب؛ فهو كافر، وكفر التراب ما تحته: غطاه. أكفر غيره وكفَّره: نسبه إلى الكفر. وأكفر من يطيعه: ألجأه إلى أن يعصيه([2]).
أنواع الكفر وأقسامه:
قسم العلماءُ الكفرَ - من الناحيتين النظريَّة والعمليَّة- إلى نوعين:
النوع الأول: كفر أكبر
يُخرِج من الملة، وهو خمسة أقسام:
-
القسم الأول: كفر التكذيب، ودليله قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾ [العنكبوت: ٦٨].
-
القسم الثاني: كفر الإباء والاستكبار مع التصديق، ودليله قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: ٣٤].
-
القسم الثالث: كفر الشكِّ، وهو كفر الظن، ودليله قوله تعالى: ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا ﴿٣٥﴾، (لَٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿٣٨﴾ [الكهف: ٣٥-٣٨].
-
- القسم الرابع: كفر الإعراض، ودليله قوله تعالى: ﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ﴾ [الأحقاف: ٣].
-
القسم الخامس: كفر النفاق، ودليله قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: ٣]([3]).
النوع الثاني: كفر أصغر
لا يُخرِج من الملة، وهو الكفر العمَليُّ، وهو الذنوب التي وردت تسميتُها في الكتاب والسنة كفرًا، وهي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر؛ مثل كفر النعمة المذكور في قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: ١١٢]. ومثل الحلف بغير الله.. قال ﷺ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»([4]).
ومثل قتال المسلم المذكور في قوله ﷺ: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»([5])، وفي قوله ﷺ: «لا ترجعوا بعدي كُفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»([6]).
وقد جعل الله مرتكب الكبيرة مؤمنًا.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٨].
فلم يُخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخًا لوليِّ القصاص، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: ١٧٨]، والمراد أُخُوَّة الدين بلا ريب، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: ٩].. إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: ١٠]([7]).
وأشكال الكفرين الأكبر والأصغر أكثر من ذلك بكثير، ومنها ما يتعلق بالألوهية والربوبية وأسماء الله تعالى وصفاته، ثم ما يتعلق بأصول الإيمان الأخرى؛ كالملائكة والكتب والنبيين واليوم الآخر والقدر. كذلك ما يتعلق بالإيمان والكفر من مسائل؛ مثل: تكفير المعيَّن، والإعذار بالجهل، والتأويل، وسائر العوارض التي يعذر المعيَّن بها، وما يعد من البدع مكفرًا وما لا يعد، وما يلتبس بالكفر مما يكون أحيانًا -أو دائمًا- بمعناه؛ كالشرك والنفاق و«الكتابيَّة» (ديانة أهل الكتاب)، والظلم والإثم، وغيرها، وهذا مع غيره من العلاقة بين الإيمان والإسلام، وبين العقيدة والشريعة، وغير ذلك بابُ علمٍ واسع؛ هو علم التوحيد الواجب تعلُّمُه على كل مسلم يريد أن يحَصِّل أول أسباب محبَّة ربِّه الواحد الأحد سبحانه.
الفروق بين الكفرين.. الأكبر والأصغر:
1- أن الكفرَ الأكبر يُخرِج من الملَّة ويُحبط الأعمال، والكفر الأصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط الأعمال؛ لكن ينقصها بحسبه ويعرِّض صاحبَه للوعيد.
2- أن الكفر الأكبر يَخلُد صاحبُه في النار، والكفر الأصغر إذا دخل صاحبُه النار فإنه لا يَخلد فيها. وقد يتوب الله عليه فلا يدخله النار أصلًا.
3- أن الكفر الأكبر يُبيح الدم والمال، والكفر الأصغر لا يبيح الدم والمال.
4- أن الكفر الأكبر يوجب العداوة الدائمة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز للمؤمنين محبتُه وموالاته ولو كان أقرب قريب، وأما الكفر .. لأصغر فإنه لا يمنع الموالاة مطلقًا؛ بل صاحبه يُحَب ويوالَى بقدر ما فيه من الإيمان، ويبغض ويعادَى بقدر ما فيه من العصيان([1]).
ما يمنع من محبة الله تعالى.. الكفر الأكبر أم الأصغر؟
الرأي أن الكفر الأكبر وحده هو الذي يمنع من محبة الله تعالى عبدَه، وذلك استنادًا إلى جملة أدلة:
الأول: أنه ما دام صاحب الكفر الأصغر يُحَب ويوالى من قبل المؤمنين؛ فإنه كذلك بالنسبة لربه -والله أعلم- وإنه لا دليل على عدم ذلك، كما سيتضح -إن شاء الله- من خلال الآيات التي في عدم حب الله للكافرين؛ أنها في الكافرين كفرًا أكبر.
الثاني: أن الله سبحانه أرأف وأرحم بعباده من إخوانهم المؤمنين، وهو أيضًا سبحانه أقرب إليهم منهم؛ بل أقرب إليهم من أنفسهم.. قال تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: ٨٥].
وأنه سبحانه يتقرَّب إلى عباده بأكثر مما يتقربون هم إليه، ومما يتقرب بعضهم لبعض.. قال تعالى -في الحديث القدسي-: «ومن تقرَّب مني شبْرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقُراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا؛ لقيتُه بمثلها مغفرة»([2]). ومعلوم أن الكفر الأصغر ليس شركًا بالضرورة لا أكبر ولا أصغر.
قال الإمام النووي: معنى الحديث: «من تقرب إلي» بطاعتي؛ «تقربت إليه» برحمتي، وإن زاد زدت، «فإن أتاني يمشي» وأسرع في طاعتي «أتيته هرولة»؛ أي: صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أُحْوِجْه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود([3]).
الثالث: أن صاحب الكفر الأصغر قد يدخل الجنة -سواء بعد خروجٍ من النار، أو بعد المغفرة ابتداءً- ومعلوم أنه لا يدخل الجنة مكروهٌ من قبل الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا﴾ [فاطر: ٣٩].
الرابع: أن هذا كلَّه من كرم الله ورحمته اللذين لا يقنط منهما إلا كافرٌ كفرًا أكبر؛ أما صاحب الكفر الأصغر فقد تناله رحمةُ الله تبارك وتعالى وعفوه.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).