محبة الله لعبده .. أن ما أمرنا به اللهُ يحبه وما نهانا عنه يكرهه
بقلم / محمد صقر
محبة الله لعبده
فحركات العالم العلوي والسفلي وما فيهما موافقة للأمر؛ إما الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه، وإما الأمر الكوني الذي قدره وقضاه، وهو سبحانه لم يقدره سدًى ولا قضاه عبثًا؛ بل لما فيه من الحكمة والغايات الحميدة، وما يترتب عليه من أمور يحب غاياتها وإن كره أسبابها ومبادئها؛ فإنه E يحب المغفرة وإن كره معاصي عباده، ويحب الستر وإن كره ما يستر عبده عليه، ويحب العتق وإن كره السبب الذي يعتق عليه من النار، ويحب العفو كما في الحديث: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»([1]).
وإن كره ما يعفو عنه من الأوزار، ويحب التوابين وتوبتهم وإن كره معاصيهم التي يتوبون إليه منها، ويحب الجهاد وأهله بل هم أحب خلقه إليه، وإن كره أفعال من يجاهدونه، وهذا بابٌ واسع قد فُتِح لك؛ فادخل منه يطلعك على رياضٍ من المعرفة مونقة، مات من فاتته بحسرته، وبالله التوفيق.
وهذا موضع يضيق عنه عدة أسفار، واللبيب يدخل إليه من بابه، وسر هذا الباب أنه سبحانه كامل في أسمائه وصفاته؛ فله الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجهٍ ما، وهو يحب أسماءه وصفاته، ويحب ظهور آثارها في خلقه؛ فإن ذلك من لوازم كماله؛ فإنه سبحانه وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عليم يحب العلماء، جواد يحب الأجواد، قوي والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، حيي يحب أهل الحياء.
وفي يحب أهل الوفاء، شكور يحب الشاكرين، صادق يحب الصادقين، محسن يحب المحسنين. فإذا كان يحب العفو والمغفرة والحلم والصفح والستر؛ لم يكن بدٌّ من تقديره للأسباب التي تظهر آثار هذه الصفات فيها، ويستدل بها عباده على كمال أسمائه وصفاته، ويكون ذلك أدعى لهم إلى محبته وحمده وتمجيده والثناء عليه بما هو أهله؛ فتحصل الغاية التي خلق لها الخلق، وإن فاتت من بعضهم فذلك لفوات سبب لكمالها وظهورها؛ فتضمن ذلك الفوات المكروه له أمرًا هو أحب إليه من عدمه([2]).
ولذا علينا أن نسير في هذا الركب، ركب المحبوبين لله رب العالمين، ووفق اتجاه الكون بأرضه وسمائه؛ أن نبدأ من هذا المنطلق لننتهي -بمشيئة الله تعالى- إلى هذه الغاية.. راضين بما قدره الله علينا، طائعين أمره.
3- أن ما أمرنا به اللهُ يحبه وما نهانا عنه يكرهه:
وهذا بدهِيٌّ، والمعنى: أن كل ما أُمِر به في الشرع الشريف من إيمان وإسلام وإحسان وصلاة وزكاة، وصوم وحج وجهاد، وبر وصلة وجميع الأخلاق الحسنة؛ محبوبٌ لله تعالى، وبالعكس فكل ما نُهِي عنه في الشرع من كفر وخيانة وآثام وربًا وزنًا، وسرقة وشهادة زور، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف؛ مبغوض إلى الله سبحانه.
وإذ كان الأمر كذلك، فقد كان علينا إذن أن نحشد في هذا الكتاب -بما أنه ينبغي أن يحوي موانع محبة الله تعالى وأسبابها- سائر الأوامر والنواهي في الشرع الشريف، ولو فعلنا ذلك لكان الكتاب حوى الإسلام كله، وحيث إن هذا أمر ليس في الطاقة؛ فقد اقتصرنا على ما صرَّح الشرع في نصوصه، سواء في القرآن أو في صحيح السنة بأن الله تعالى يحبُّه أو يبغضه.
فلو قال قائل عن أيِّ مأمور به في الشرع أنه محبوب لله، وعن أي منهي عنه فيه أنه مبغوض لله؛ كان كلامه صحيحًا، لكننا مع ذلك أعرضنا عن أيِّ كلامٍ لغير الله ورسوله؛ خشية الخطأ أو خشية التطويل.
4- ترتيب المبغوضات والمحبوبات في هذا الكتاب:
ثم تأتي بعد ذلك مسألة ترتيب المبغوضات والمحبوبات؛ أي الأشد بغضًا والأكثر محبةً إلى الله تعالى، وهنا واجهتنا مشكلة؛ إذ تجد في السنة المشرَّفة أحاديث تذكر أن شيئًا ما لم يذكر القرآن صراحة أنه محبوب لله تعالى، أنه أحب الأعمال إلى الله؛ كالصلاة على وقتها، والمداومة على العمل الصالح، والإيمان.. إلخ.
وبعد تقليبٍ طويل للأمر، رأينا أن نُقدِّم ما نصَّ عليه القرآن على ما نصت عليه السنة؛ لجملة أسبابٍ نذكرها فيما يلي:
5- ما اختص به القرآن وما اختصت به السنة في شأن محبَّة الله:
(أ) أن نصوص القرآن عامة ونصوص السنة خاصة في محبَّة الله، فعلى حين يذكر القرآن أن الله تعالى يحب المحسنين ويحب المتقين ويحب المتطهرين، تذكر السنة أن من أحب الأعمال إليه سبحانه البر وصلة الأرحام، وهما من الإحسان، وهكذا.
(ب) أن القرآن يذكر الأمر المحبوب باسم الفاعل المجموع عادةً؛ المقسطين، الصابرين، التوابين، وهكذا، إلا في مراتٍ قليلة؛ كالجهر بالسوء مثلًا، في حين أن السنة تذكر الأعمال نفسَها؛ كحب لقاء الله، الزهد، العطاس.. إلخ، وهذا متماشٍ مع تعميمات القرآن وتخصيصات السنَّة. وهذا من إعجازهما؛ إذ إن القرآن بما أنه كلام الله يجزِم بمحبَّتِهِ سبحانه لكل محسن، وذلك لاستغراق الجمع المحلَّى بأل سائرَ أفرادِهِ؛ أما النبي ﷺ فيعلم أن المحسن قد يسيء في أمرٍ آخر يقعد به عن محبة الله تعالى، فدلَّ على العمل الجالب للمحبة ولم يعد بها.
(ﺟ) من أجل ذلك أوردنا الآيات أولًا لعموميتها، ثم ثنَّيْنا بالأحاديث.. الآيات الأكثر فالأقل، والأحاديث إما أن تفاضل بين المحبوبات وإلا فلا؛ فما فاضلت فيه قدمنا الأفضل فالأفضل، مستعينين بنصوص شرعية أخرى وبروح الشريعة الغراء، وما لم تفاضل فيه قدَّمنا الأصح فالأقل صحة، ولم نورد الضعيف.
(د) فمن خلال هذا البحث نعلم أن: القرآن كلام الله تعالى عن الله تعالى، والسنة كلام النبي ﷺ عن الله تعالى.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).