حب الله تعالى وتعظيمه .. كيف تكون محبة الله

محبة الله

بقلم: محمد صقر

محبة الله كيف تكون ؟ في بحثٍ بخطورة أمر محبة المولى D العبادَ، ينبغي التزامُ الوسائل والأدوات المشروعة لإثبات أمرٍ ما أو نفيِه.. ومن هذه الأدوات والوسائل: الوقوف عند الوحي المنـزّل بقسميه كليهما (الكتابِ والسنة)، والدقةُ اللغوية عند إطلاق الأحكام لدفع اللّبس والتأويل المنحرف، واعتمادُ آراء العلماء الربّانيين الثقات وطرحُ آراء المغرضين والكذبة([1]).

محبة الله كيف تكون ؟

وبادئ ذي بدءٍ ينبغي العلم بأنَّ كثيرًا من العلماء.. سواءً علماءُ العقيدةِ، أو التفسير، أو شراحُ الحديث، وكتبُهم تعدُّ أهمَّ وأشهر المصادر التي تناولت موضوع المحبَّة كصفةٍ ثابتة لله تعالى قد دخل عليهم تأويلُ الأشعرية؛ فإن أكثرهم قد عبَّر عن محبة الله بلوازمها لا بمفهومها وحقيقتها كما هي في عقيدة السلف. ونحن -بعون الله تعالى- سنبيِّنُ الفرق بين العقيدتين توضيحًا وتبيينًا لعقيدة السلف مما قد شابها في كتب هؤلاء الأعلام -عليهم من الله جميعًا الرحمةُ والرِّضوان-.

ولئلا تهولك هذه الحقيقة، يقول الدكتور مصطفى حلمي، شارحًا موقفَ شيخِ الإسلام ابن تيمية T من علماء الأشاعرة ومن تأثر بهم من أهل الحديث: ومع أن شيخنا لا يُعِدُّ أتباع المدرسة الأشعرية سلفيين خلَّصًا؛ لأن المذهب السلفي بالمعنى الدقيق.

يلفظ استخدام الكلام المبتدع، سواء على منهج المعتزلة أم بدفاع شيوخ الأشاعرة، إلا أنه -أي شيخ الإسلام- يقر بوجود تقارب بين المذهبين كما قلنا، ويراه يكاد يلتحم عند المحدثين منهم خاصة؛ كابن عساكر (571هـ) والبيهقي (458هـ) والنووي (676هـ)، حيث غلب عندهم جانب الحديث على الاتجاه الكلامي.

ومن جهة أخرى ينتسب إلى الحنابلة أيضًا من المتأخرين من يذهب إلى شيء من التأويل؛ كابن عقيل (513هـ) وابن الجوزي (597هـ)([2]).

(1) عموم المحبة عند علماء اللغة:

الحُبُّ -بضم الحاء المهملة وكسرها-: الوداد والمحبة.. وفعله «أحبّ» و«حَبَب» و«حَبَّ»، وكذلك «استحبَّه» ومصدره «استِحْباب» كاستحسان. وفاعله «مُحِبٌّ» والمرأة «مُحِبّة» و«مُحِبٌّ». ومفعوله «محبوب» (غير مقيس وهو الأكثر)، والمقيس منه «مُحَبٌّ» لكنه قليل الاستعمال.. تقول: أحبّه الله فهو محبوب([3]).

وقيل: أصل المحبة الصفاء؛ لأن العرب تقول -لصفاء بياض الأسنان ونضارتها-: حبَبَ الأسنان. وقيل: مأخوذة من الحُباب، وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد؛ فعلى هذا المحبةُ غليانُ القلبِ وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب. وقيل: مشتقة من اللزوم والثبات، ومنه أحب البعير إذا برك فلم يقم..

قال الشاعر:

 حلت عليه بالفلاة ضربا .. ضرب بعير السوء إذ أحبا

فكأن المحبَّ قد لزم قلبَه محبوبُه فلم يرُم عنه انتقالًا. وقيل: بل هي مأخوذة من القلق والاضطراب، ومنه سُمِّيَ القُرط حَبًّا لقلقه في الأذن واضطرابه ..

قال الشاعر:

تبيت الحية النضناض منه .. مكان الحب تستمع السرارا

وقيل: بل هي مأخوذة من الحَبِّ جمع حبَّة، وهو لباب الشيء وخالصه وأصله؛ فإن الحب أصل النبات والشجر. وقيل: بل هي مأخوذة من الحبِّ الذي هو إناء واسع يوضع فيه الشيء فيمتلئ به بحيث لا يسع غيره، وكذلك قلْب المحب ليس فيه سعة لغير محبوبه. وقيل: مأخوذة من الحب، وهو الخشبات الأربع التي يستقر عليها ما يوضع عليها من جرة أو غيرها؛ فسمي الحب بذلك لأن المحب يتحمل لأجل محبوبه الأثقال. كما تتحمل الخشبات ثقل ما يوضع عليها.

وقيل: بل هي مأخوذة من حبة القلب، وهي سُوَيْداؤه، ويقال: ثمرته؛ فسمِّيت المحبة بذلك لوصولها إلى حبة القلب، وذلك قريب من قولهم: ظهره إذا أصاب ظهره، ورأسه إذا أصاب رأسه، ورِآه إذا أصاب رئته، وبطنه إذا أصاب بطنه، ولكن في هذه الأفعال وصل أثر الفاعل إلى المفعول، وأما في المحبة فالأثر إنما وصل إلى المحب([4]).

 والحب نقيض البغض، والبغض نفور النفس عن الشيء الذي يُرغَب عنه، فإنَّ الحب انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه([5]).

 والمحبة -عمومًا-:

إرادة ما تراه أو تظنه خيرًا؛ وهي على ثلاثة أوجه: محبة للذة كمحبة الرجل المرأة، ومنه قوله تعالى: ﭐ ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: ٨]، ومحبة للنفع كمحبة شيء ينتفع به، ومنه قوله تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الصف: ١٣] ومحبة للفضل كمحبة أهل العلم بعضِهم لبعض لأجل العلم([6]).

والمحبةُ وميلُ القلب أمرٌ غير مقدورٍ للعبد؛ بل هو من الله تعالى لا يملكه العبد، ويدل له قوله تعالى: ﴿ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ [الأنفال: ٦٣] بعد قوله: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: ٦٣].  

وبه فُسِّر ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٤]([8]). وكل هذا في المحبة التي هي من قبل العباد.

(2) محبة الله عند علماء العقيدة، وخلاف المتكلمين فيها:

أما المحبة التي هي من قبل الله تعالى، فلا يمكن أن تشبه محبةَ العباد بعضِهم بعضًا كما شرحها علماء اللغة آنفًا؛ ذلك لأنه ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١].

قال ابن الجوزي T:

إن محبة الله D للعبد ليست بشغف كمحبة الآدميين بعضِهم بعضًا([9]). وقال: (فليست) محبة الله D كمحبة الآدميين، وإنما يحب من أطاعَه([10]).

وقال ابن جماعة: اعلم أن المحبة في اللغة إنما هي ميْلُ القلب إلى المحبوب. وذلك في حق الباري تعالى محال؛ لكن نهاية المحبة غالبًا إرادة الخير للمحبوب والإحسان إليه على القولين المعروفين؛ أن محبة الله تعالى هي صفة ذات أو صفة فعل؛ فمن قال: صفة ذات.

فمعناه: أنه يريد بالمحبوب ما يريد المحبوبُ([11]) لمحبوبِه من الإكرام والإحسان إليه. ومحبة الله تعالى للأقوال والخصال المحمودة يرجع إلى إرادته كاسبها والإحسان([12]).

فصفات الله تعالى تنقسم إلى صفات ذات، وصفات فعل، وصفات لها الاعتباران كلاهما؛ مثال الأول صفة اليدين وصفة الوجه، ومثال الثاني صفة الاستواء وصفة المجيء، ومثال الثالث صفة الكلام([13]).

وانقسموا حول صفة المحبة: هي من صفات الذات، أم من صفات الفعل؟ ناهيك عن أن بعضهم نفاها، وبعضهم أوَّلها.

وقد رد ابن القيم T في (نونيته) على من يقول أن محبة الله العباد هي عين إرادته تعالى، قائلًا: وتمـامُ ذاك القـولِ([14]) :

أنَّ محبـةَ الـ    .. ـرحمـن غيـرُ إرادةِ الأكــوانِ

وكلاهما محبوبُه ومرادُه .. وكلاهـما هـو عنـدَه سيـانِ

إن قلتـمُ: عنديَّةُ التكـويـن فالـ .. ـذاتـانِ عنـدَ الله مخلـوقـانِ

أو قلتـمُ: عنديَّةُ التقـريـبِ تقـ  ..  ـريبِ الحبيـب، وما همـا عِـدلانِ

فـالحـب عندكم المشيئـةُ نفسُـها .. وكلاهمـا فـي حكمها مثـلانِ

لكنْ منازِعـكم يقـول بأنهـ‍ا .. عنديـة حقًّـا بـلا روغـانِ

جمعتْ لـه حـبَّ الإلـه، وقربـَه .. مـن ذاتـه، وكرامـةَ الإحسـانِ

والحبُّ وصفٌ، وهو غيـرُ مشيئـة .. والعنـد قـربٌ ظاه‍ر التبيـان([15])

قال شارح النونية:

فحاصل هذه الأبيات أن محبة الله تعالى عندكم([16]) عين إرادته؛ فلا يظهر وجه اختصاص العند بالملائكة؛ لأنكم إن قلتم: إن المراد بالعنديَّة التكوين؛ فإبليس وجبريل كلاهما عند الله مخلوقان مُكوَّنان؛ فلا يبقى لتخصيصٍ بالعندية معنًى، وإن قلتم:

إن المراد بالعندية عندية المحبة؛ فهو أيضًا لا يصح بناءً على قولِكم؛ لأن المحبة عندكم هي المشيئة نفسها، وجبريل وإبليس في نفس المشيئة متساويان([17]).

وإذن فعلماء أهل السُّنَّة لا يقولون أن المحبة هي محض الإرادة، والإرادة عندهم إرادتان: إرادة كونيّة، وهي ما ينفيها ابن القيم في المحبّة؛ بمعنى أنه ليس كلُّ ما خلقه الله يحبُّه، فقد خلق الكافرين وهو سبحانه لا يحبهم. وإرادة شرعية، وهي ما أمر الله به لا كلّ ما خلقه، وهذه هي المتعلقة بمحبة الله D.

قال ابن أبي العز الحنفي: والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خَلْقية، وإرادة دينية أمرية شرعية؛ فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضى، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات([18]).


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).


(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).


(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).


(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.


(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.


(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.


(13) «الأربعين النووية» لأبي زكريا محيي الدين النووي (المتوفى 676هـ) تحقيق: قصي محمد نورس الحلاق وأنور بن أبي بكر الشيخي ط1 دار المنهاج للنشر والتوزيع (ط. ت).


(14) «إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم» لأبي السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى 982هـ) ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت (د. ت).


(15) «إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل» لمحمد ناصر الدين الألباني (المتوفى 1420هـ) تحقيق: زهير الشاويش ط2 المكتب الإسلامي - بيروت 1405هـ.


(16) «الاستذكار» لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى 463هـ) تحقيق: سالم محمد عطا ومحمد علي معوض ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1421هـ.


(17) «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى 463هـ) تحقيق: علي محمد البجاوي ط1 دار الجيل - بيروت 1412هـ.


(18) «أسد الغابة في معرفة الصحابة» لأبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري عز الدين ابن الأثير (المتوفى 630هـ) تحقيق: علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود ط1 دار الكتب العلمية 1415هـ.


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.