تأصيل مفهوم محبة الله العباد بحسب علم "أصول الفقه"

علم اصول الفقه

بقلم / محمد صقر

   

ما دمنا نتكلم بالوحي والشرع؛ فإن علينا أن نلتزم ألفاظَهما واصطلاحاتِهما، أو على الأقل لغتهما التي نزلا بها، خاصة في تناول أمر خطير كأمر محبة الله، هو طِلبة الطالبين، وقد ضلَّ فيه من ضل وزلَّ فيه من زل.. نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. وقد بُني هذا البحث الذي بين يديك على هذه المصطلحات (المحبوب، المكروه، المانع، السبب، الأثر والمظهر)، فما حقيقتها؟

علم اصول الفقه

(1) المحبوب:

هو الأمر المشروع أو المقبول، وينقسم إلى قسمين: فرض (أو واجب)، ومندوب (أو مستحب).  أما (الفرض) فقد يطلق في اللغة بمعنى التقدير، ومنه قولهم: فرْضَتا القوس للحزَّتين اللتين في سيتيه موضع الوتر، وفرضة النهر هي موضع اجتماع السفن، ومنه قولهم: فرَض الحاكم النفقة؛ أي قدَّرها، وقد يطلق بمعنى الإنزال، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ [القصص: ٨٥]؛ أي أنزل، وقد يطلق بمعنى الحِلِّ، ومنه قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب: ٣٨]؛ أي: أحلَّ له.

وأما في الشرع فلا فرق بين الفرض والواجب([1])؛ إذ الواجب في الشرع عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سببًا للذم شرعًا في حالةٍ ما، وهذا المعنى بعينه متحقق في الفرض الشرعي، وخصَّ أصحابُ أبي حنيفة اسم الفرض بما كان من ذلك مقطوعًا به، واسم الواجب بما كان مظنونًا؛ مصيرًا منهم إلى أن الفرض هو التقدير، والمظنون لم يعلم كونه مقدَّرًا علينا بخلاف المقطوع؛ فلذلك خص المقطوع باسم الفرض دون المظنون، والأشبه ما ذكره (الشافعية والجمهور)([2]) من حيث إن الاختلاف في طريق إثبات الحكم حتى يكون هذا معلومًا وهذا مظنونًا؛ غير موجب لاختلاف ما ثبت به([3]).

و(المندوب) أو (المستحب) هو: ما طلب الشارع فعله من غير إلزام، بحيث يمدح فاعله ويثاب، ولا يذم تاركه ولا يعاقب، وقد يلحقه اللوم والعتاب على ترك بعض أنواع المندوب([4]).

ولم تقتصر النصوص الشرعية الواردة في أمر محبة الله العباد على ذكر الأمور المحبوبة لله تعالى فحسب، بل ذكرت محبوبي الله تعالى من عباده بصيغة الجمع (المحسنين، المتقين، الصابرين.. إلخ)؛  فـ«المحبوب» لله تعالى هو القائم بتلك الأعمال (الإحسان، التقوى، الصبر.. إلخ).

(2) «المكروه»:

المكروه -في العربية-لا نفصل بين علامة الترقيم والكلمة قبلها، وفي الجملة الاعتراضية توضع الشرطتان ملاصقتين للجملة من قبل ومن بعد مأخوذ من الكريهة، وهي الشدة في الحرب، ومنه قولهم: جمل كره؛ أي شديد الرأس، وفي معنى ذلك الكراهة والكراهية.

وأما في الشرع فقد يطلق ويراد به الحرام، وقد يراد به ترك ما مصلحته راجحة وإن لم يكن منهيًّا عنه؛ كترك المندوبات، وقد يراد به ما نهي عنه نهيَ تنـزيهٍ لا تحريم؛ كالصلاة في الأوقات والأماكن المخصوصة، وقد يراد به ما في القلب منه حزازة وإن كان غالبُ الظن حلَّه؛ كأكل لحم الضبُع. وعلى هذا فمن نظر إلى الاعتبار الأول حدَّه بحد الحرام كما سبق، ومن نظر إلى الاعتبار الثاني حده بترك الأوْلى، ومن نظر إلى الاعتبار الثالث حده بالمنهيِّ عنه الذي لا ذمَّ على فعله، ومن نظر إلى الاعتبار الرابع حده بأنه الذي فيه شبهةٌ وتردد([5]).

وقد جاء التعبير عن «المكروه» لله تعالى في القرآن بصيغة نفي الحب «لا يحب»، أو بصيغة «كرِهَ»، أو «كبُرَ مقتًا»؛ وذلك مثل (لا يحب الكافرين، لا يحب الخائنين، لا يحب من كان مختالًا فخورًا.. وغيرها)، أو (كرِه الله انبعاثهم)، أو (كبر مقتًا عند الله)، وفي السنة بصيغ كـ«كره» و«يكره»؛ مثل: («إن الله كره لكم ثلاثًا»([6])، و«إن الله يكره البؤس والتباؤس»([7]).. إلخ). وذكر القرآنُ المكروهين من الأشخاص؛ كـ(الكافرين، الخائنين، المختال الفخور.. إلخ)، بينما تذكر السنة الأقوال والأعمال والأمور المكروهة؛ كـ(«قيل وقال»([8])، و«التثاؤب»([9])، و«البؤس والتباؤس»([10])،

أما حديث أبي هريرة I؛فأخرجه الإسماعيلي في «معجم شيوخه» (2/594)، ومن طريقه السهمي في «تاريخ جرجان» (ص142)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/163 ح6202 و6203): حدثنا حاتم بن يونس الجرجاني، حدثنا إسماعيل بن سعيد، حدثنا عيسى بن خالد البلخي، حدثنا ورقاء عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمتِه عليه، ويكره البؤس والتباؤس، ويبغض السائل الملحف، ويحب العفيف المتعفف». قال الشيخ حمزة السهمي: يقال تفرد إسماعيل بن سعيد ينوي بهذا الإسناد.

وأما حديث أنس I؛ فأخرجه الشهاب (2/161 ح1101): أنا أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني، نا أبو بكر محمد بن أبي عبيد المؤذن، نا أبو علي أحمد بن محمد بن علي النهاوندي، نا أبو يعلى محمد بن زهير الأبلي، ثنا أبو الربيع خالد بن يوسف السمتي، نا أبو عوانة عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويكره البؤس والتباؤس».

وحديث أبي سعيد الخدري I؛ فأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (5/163 ح6201)، والسمعاني في «أدب الإملاء والاستملاء» (ص25)، كلاهما من طريق: عثمان بن أبي شيبة، ثنا عمران بن محمد بن أبي ليلى عن أبيه عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس».

وحديث عمران بن حصين I؛ أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (5/163 ح6200): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا العباس الدوري، حدثني روح، ثنا شعبة عن الفضيل بن فضالة عن أبي رجاء العطاردي قال: خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف خز، فقلنا: يا صاحب رسول الله! تلبس هذا؟ فقال: إن رسول الله ﷺ قال: «إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى أثر نعمتِه عليه».

وحديث زهير بن أبي علقمة الضُّبَعِي I؛ أخرجه الطبراني في «الكبير» (5/273 ح5308)، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (2/606 ح570)، والرافعي في «التدوين في أخبار قزوين» (1/323): حدثنا بشر بن موسى، ثنا خلاد بن يحيى، ثنا سفيان الثوري عن أسلم المنقري عن زهير بن أبي علقمة الضبعي قال: أتى النبيَّ ﷺ رجلٌ سيئ الهيئة، فقال: «ألك مال؟» قال: نعم، من كل أنواع المال؛ قال: «فليُرَ عليك؛ فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنًا، ولا يحب البؤس والتباؤس».

وحديث يحيى بن جعدة المرسل؛ أخرجه هناد في «الزهد» (2/421 ح826): حدثنا أبو معاوية عن حجاج بن أرطأة عن حبيب بن أبي ثابت عن يحيى بن جعدة، قال: قال رسول الله ﷺ بنحوه، وفيه: «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب إذا أنعم على عبد بنعمة أن يرى أثرها عليه، ويبغض البؤس والتباؤس؛ ولكن الكبر أن يسفه الحق أو يغمص الخلق».وقد حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» بشواهده (3/310 ح1320)


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.

و«المحبوب» في النصوص الواردة في محبة الله عبادَه؛ يعني أحيانًا الفرض، وأحيانًا المندوب، أي: ما دون الفرض؛ فالأول كالإحسان والتقوى والصبر، والآخر كالنوافل، وكذلك يعني بعض المباح كالعطاس وغيره.

و«المكروه» في النصوص التي معنا في هذا الكتاب إنما هو بمعني المحرَّم، وقد يأتي أحيانًا بمعنى المكروه الاصطلاحي في الفقه والأصول، أي: ما دون المحرَّم؛ فالأول كالكفر والكبر والخيانة، والثاني كالتثاؤب وكثرة السؤال عما لا يجدي.


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.