موانع محبة الله تعالى للخيانة .. ما معنى الخيانة؟

موانع محبة الله تعالى للخيانة

بقلم / محمد صقر

المانع الثاني من محبَّة اللهِ عبْدًا

معنى  الخيانة:

الخيانة -في العربية- مصدر الفعل «خان» يخون خيانة وخونًا واختِيانًا ومخانة، وخان الشيء خونًا وخيانة ومخانة: نقص، وخان الأمانة: لم يُؤدِّها، وخان فلانًا: غدَر به؛ فهو خائن.. الجمع خَوَنَة. وخان النصيحة: لم يُخلِص فيها، ويقال: خانته رجلاه: لم يقدر على المشي، وخانه الدهر: غدر ربه([1]).

وخوَّن فلانًا: نسبه إلى الخيانة. واختانه: خانه، ويقال: اختان المال. وتخوَّن الشيء: تنقَّصه، ويقال: تخون فلانٌ حقي؛ إذا تنقصه شيئًا فشيئًا، وتخوَّن فلانًا: اتهمه بالخيانة. والخائنة: الخيانة، وفي القرآن الكريم: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: ١٩]. والخوَّان: المبالغ في الخيانة بالإصرار عليها. ويقال: دهر خوَّان([2]).

والخيانة ضدُّ الأمانة، وهذه الأخيرة من أعظم أخلاق الدين؛ بل هي الدين كله.. قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: ٧٢].. قال ابن كثير -في تفسيرها-: قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن البصري وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض.

وهو مروي عن ابن عباس، وقال آخرون: هي الطاعة. وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال أُبَيُّ بن كعب: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها، وقال قتادة: الأمانة الدين والفرائض والحدود، وقال بعضهم: الغُسل من الخيانة([3])، وقال مالك عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة؛ الصلاة والصيام والاغتسال من الجنابة. وكل هذه الأقوال لا تَنافِيَ بينها؛ بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب وإن تركها عوقِب؛ فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه([4]).

والأمانة تعني الوفاء، والوفاء يعني التمام؛ أي: أداء تمام الحق وأخذ تمام الحق بلا زيادة ولا نقصان([5]). والأمانة والوفاء والصدق متقاربة المعاني، وداخل بعضها في بعض، وجميعها من صفات المؤمنين.. قال تعالى: ﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ﴾ [المؤمنون: ٨، والمعارج: 32]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر: ٣٣]. كذلك فإن أضدادها من الخيانة والغدر والكذب متقاربة المعاني.

وجميعها من صفات المنافقين والكافرين.. قال تعالى: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾ [الزمر: ٣٢]. وقال ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»([6]).. قال الحافظ: ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أنها منبهةٌ على ما عداها؛ إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول والفعل والنيَّة؛ فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفِعْل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخُلْف([7]).

الفرق بين «الخِيَانة» و«الخَوَّانِيَّة»:

إذا كانت «الخيانة» مصدر خان يخون، واسمًا على الغدر والخلف والكذب وتبديد الحقوق أو جحودها؛ فإن «الخَوَّانِيَّة» مصدرٌ صناعي من «خوَّان»، وهذا الأخير صيغة مبالغة من «خائن»؛ فمصدره خان خيانة، وأما المصدر من «خَوَّان»: خوَّانية. وقلنا: «الخيانة» و«الخوَّانية»؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج: ٣٨]؛ فالدقة تقتضي القول: إن ما يمنع من حبه تعالى عبده هو «الخيانة» و«الخوَّانِيَّة»، والله تعالى أعلم.

أولًا- الخيانة بمعنى قتل المعاهد، والمؤمَّن:

قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج: ٣٨]، وقال: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: ٥٨].

وقد سبق الحديث حول الآية الأولى، أما الآية الأخرى فنـزلت في حال المسلمين وبني قريظة والمسلمين بعد الأحزاب.. قال السيوطي: روى أبو الشيخ عن ابن شهاب، قال: دخل جبريل على رسول الله ﷺ فقال: «قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم؛ فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة([8]).

وقد عمل الصحابَةُ M بهذه الآية في الفتوح الإسلامية؛ فطبقها معاوية في غزو الروم، وطبقها سلمان في غزو فارس([9]).

وقد حمل بعض المفسرين قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ على المؤمنين إن هم خانوا.. قال الصابوني: وهذا كالتعليل للأمر بنبذ العهد؛ أي: لا يحب من ليس عنده وفاء ولا عهد([10])، وقال ابن كثير: أي: حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضًا([11]).

وقال السعدي: فلابد من أمرٍ بيِّن يبرئكم من الخيانة([12]). إلا أنه مع ذلك يحتمل أن يكون المقصود الكافرين الذين خِيفت خيانتهم؛ فنهى الله النبي والمؤمنين عن أن يشبهوهم في أخلاقهم التي يكرهها الله تعالى.

وحول قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ٤] الآية.

يقول أحد الباحثين: يمثل قتال الذين كفروا الذي أمرت به الآية القرآنية أحد المبادئ الإسلامية والقضايا القرآنية التي أسيء فهمها كثيرًا على طول التاريخ الإسلامي واختلاف أوضاع المسلمين قوةً وضعفًا، يستوي في ذلك الفهم السيئ مَن لا يؤمنون بالإسلام ولا يرون في رسوله ﷺ أحد الرسل وخاتَمَهم الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، ومن يؤمنون بذلك ويرون في قتال غير المؤمنين

بشروطه- فريضة على المسلمين توجبها الدعوة إلى الله، ويُناط بها استقامة الناس وهدايتهم على صراط الله الحميد([1]).

ولا يهمنا رأي غير المسلمين الذي نعلم أن سببه التحامل على الإسلام؛ إما لإغراضٍ أو لجهل، أما سوء موقف المسلمين من الجهاد فسببه إفراط المفرِطين وتفريط المفَرِّطين؛ إذ المسلمون تفرقوا إلى فرق ومذاهب وجماعات شتى، وأصبح لكل فرقة أو مذهب أو جماعة رأيٌ في جهاد الكفار.

فعلى حين تطرَّف بعض المسلمين حتى وصلت بهم الحال إلى اتباع الأذناب من القاديانية الذين يدَّعون أنه يحرُم قتال المستعمر الكافر، نجد في زماننا وقبله من يَقتُلون بالجملة؛ فيَقتُلون المستأمنين والنساء والشيوخ والأطفال.. محاربين وغير محاربين، بل ربما يقتلون المسلمين أنفسهم، بل ربما قتلوا المسلمين الآمنين وتركوا الكفار المعتدين؛ وليس هذا بالمستغرب ولا هو بالجديد، فلقد قال النبي ﷺ في هؤلاء الخوارج: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان»([2]). وقد تناولنا قبلُ أصناف من يجب قتلهم ومن يحرم؛ فلا حاجة لإيراده هنا.

بعض الأحاديث التي تحذِّر من قتل المعاهد والمؤمَّن:

1- عن أبي سعيد I قال: قال رسول الله ﷺ: «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره؛ ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة»([3]).

2- وعن حذيفة بن اليمان I قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبو حسيلٍ. قال: فأخذنا كفار قريش. قالوا: إنكم تريدون محمدًا. فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه؛ فأتينا رسول الله ﷺ فأخبرناه الخبر؛ فقال: «انصرفا.. نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم»([4]).

وقد نقل ابن القيم في «زاد المعاد» جملة أحاديث في هذا الأمر.. نعتها بالثبوت عنه ﷺ؛ قال:

3- ثبت عنه ﷺ ##هي صلى الله عليه وسلم تعقبها في الجميع## أنه قال: «ذمة المسلمين واحدة.. يسعى بها أدناهم؛ فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا»([5]).

4- وقال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.. لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهده، من أحدث حدثًا فعلى نفسه، ومن أحدث أو آوى محدِثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»([6]).

5- وثبت عنه أنه قال: «من كان بينه وبين قومٍ عهد؛ فلا يحُلَّنَّ عقدة ولا يشدها حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء»([7]).

6- وقال: «من أمَّن رجلًا على نفسه فقتله، فأنا بريء من القاتل»([8]).

وفي لفظ: «أعطي لواء غدرة»([9]).

7- وقال: «لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة([10]) يعرف به.. يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان»([11]).

8- ويذكر عنه أنه قال: «ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو»([12]) .

والخلاصة أن الخيانة التي تمنع من محبَّة الله تعالى منها أن يقتل المسلم معاهدًا، أو من في معناه من الآمن والمستأمَن.. إلخ.

ثانيًا- ارتكاب الكبائر وإلصاقها بالبُرَآء:

يقول تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴾ [النساء: ١٠٧]. قوله تعالى: ﴿ﭞ﴾ مصدره «اختيان».. و«الاختيان» و«الخيانة» بمعنى الجناية والظلم والإثم([13]). وفي سبب نزول هذه الآية رُوي أن رجلًا من الأنصار يقال له: «طعمة بن أبيرق» من بني ظفر.

سرق درعًا من جاره «قتادة بن النعمان» في جراب دقيق؛ فجعل الدقيق ينتثر من خَرْقٍ فيه، فخبأها عند «زيد بن السمين» اليهودي؛ فالتمست الدرع عند «طعمة» فلم توجد، وحلف ما أخذها وما له بها علم؛ فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منـزل اليهودي فأخذوها، فقال: دفعها إليَّ طعمة. وشهد له ناسٌ من اليهود؛ فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله ﷺ، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهدوا ببراءته وسرقة اليهودي؛ فهمَّ رسول الله ﷺ أن يفعل، فنزلت الآية: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: ١٠٥] الآية، وهرب «طعمة» إلى مكة، وارتد، ونقب حائطًا بمكة ليسرق أهله فسقط عليه

أما عن قوله تعالى: ﴿لَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ﴾ فمبالغة من الخيانة؛ ولذا قلنا: «الخوَّانية»، إلى جانب «الخيانة»؛ وهو بمعنى الإفراط فيها.. ينساق إليها ثم ينساق إلى ما تجرُّه؛ كما انساق هذا المنافق إلى الردة ومفارقة الجماعة المؤمنة. ومن الإفراط في الخيانة تكرارها؛ بمعنى فعلها مرة تلو مرة حتى تصبح من خصاله فيصبح منافقًا.. قال ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»

فبهذا يكون الأرجح -والله أعلم- أن السرقة مرة أو مراتٍ قليلة مع الحدِّ لا تمنع من حبِّه تعالى، وإنما تكون بالإفراط فيها؛ سواء باتهام البريء بها، أو بتكرارها حتى تصبح خلقًا وديدنًا، أو بتطورها حتى تصبح كفرًا وردة.

وقياسًا على ذلك يكون كل من يرتكب كبيرة ويلصقها بغيره داخلًا تحت حكم الآية الكريمة؛ كالقاتل والزاني وشارب الخمر الذين يرمون غيرهم بسوء فعالهم، وذلك عملًا بعموم الآية، خاصة وأن سبب نزولها ضعيف.

من فوائد قصة الآية:

وردت هذه الآية من سورة النساء ضمن آيات تزخر بالمعاني الجليلة والفوائد البديعة:

1- سياق الآيات: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا 105 ﴾،  (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا  (106) -وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا  -يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا  (107) -  يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( ١٠٨) - هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا 109 -  وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿١١٠﴾ - وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿١١١﴾ - وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴿١١٢﴾ - وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴿١١٣﴾ - لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿١١٤﴾  [النساء: ١٠٥-١١٤].

2- ما يستفاد من هذه الآيات فيما يخص موضوعَنا:

(أ) أن الحكم يكون بوحي الله وليس بهوى النفس ولا بهوى الناس.

(ب) من الناحية اللغوية  أن لا تجادل الخائنين، كما قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: ١٩٩]، وقال: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: ٩٤]، وقال: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: ٩٥].

(ﺟ) أنه إذا هم الإنسان بارتكاب محرم فليستغفر الله تعالى.

(د) من علامات المنافقين أنهم يستخفون من الناس؛ كما فعل سارق الدرع، فأخفاها في جراب الدقيق، ولا يستخفون من الله بألا يسرقوا أصلًا.

(ﻫ) أن جدال المؤمنين عن ذويهم من الخائنين إذا نفعهم في الدنيا بأن صرف الأعين عنهم؛ فلن ينفعهم في الآخرة لأنهم سيُفضحون. وربما لا ينفعهم في الدنيا كما لم ينفع سارق الدرع؛ إذ كشفه الله.

(و) أن من يرتكب إثمًا ويرم به بريئًا -ولو كان يهوديًّا كافرًا- فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا.

(ز) أن من يطيع متبعَ هواه يضلّ، وأن الإنسان لابد أن يحق الحق ولو كان على عزيز أو ذي مكانة. والخلاصة أن السرقة -بل وعموم الكبائر- تعد من الخيانة، واتهام البريء بها -وهو أيضًا كبيرة- يعد من الخيانة أيضًا. وأن كلتيهما -والله أعلم- من موانع محبَّة الله تعالى عبده؛ خاصة إذا تكررتا وأصبحتا من صفات المنافقين؛ أي: صفة لازمة للمرء. نعوذ بالله من ذلك.

خلاصة هذا المانع:

نخلص من هذا المانع؛ أي «الخيانة» و«الخوَّانية»، بأن هاتين الصفتين تأتيان بمعنيين اثنين:

  • المعنى الأول: قتل المعاهد والآمن والمستأمن، ومن في معناهم ممَّن حرم الله دماءهم، وقد نادينا بالاحتراز من ذلك في المانع السابق.

  • والمعنى الثاني: اقتراف الكبائر، وخاصة السرقة، واتهام البريء بها؛ خصوصًا إذا تكررت وتطورت.

    غير أن هذين -والله أعلم- لا يكونان مانعين من محبته تعالى إلا إذا لم يتب فاعلهما، بحيث يصبحان له ديدنًا وعادة؛ مما ينذر بسوء الخاتمة، أما لو تاب وأقلع وندم؛ فإن باب التوبة مفتوحٌ إن شاء الله


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).


(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).


(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).


(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.


(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.


(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.


(13) «الأربعين النووية» لأبي زكريا محيي الدين النووي (المتوفى 676هـ) تحقيق: قصي محمد نورس الحلاق وأنور بن أبي بكر الشيخي ط1 دار المنهاج للنشر والتوزيع (ط. ت).


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.