مع استمرار المظاهرات الصاخبة فى العراق للشهر الثانى على التوالى، تبدو فى الأفق فرصة حقيقية أمام ملايين الغاضبين لهدم نظام طائفى بغيض، دون أن يمتلكوا أدوات واضحة لإقامة نظام حكم ديمقراطى يؤسس لبناء عراق جديد، لكن الحقيقة التى تثير الانتباه وتعد بالكثير من الإيجابيات هى أن المتظاهرين الذين يملأون شوارع بغداد ومعظم المحافظات الجنوبية هم من الشيعة ويطالبون باسقاط نظام الحكم الذى تهيمن عليه فصائل شيعية.
مفترق الطرق فى العراق
بل إن هؤلاء المتظاهرين أصبحوا يطالبون بوضوح تام بوقف النفوذ الإيرانى فى العراق، كما قام بعضهم برفع الاعلام العراقية على منشآت دبلوماسية إيرانية وهم يحرقون العلم الإيرانى، فى نفس الوقت الذى شهدت فيه العديد من المدن العراقية اعتداءات على مقار تنظيمات عراقية مرتبطة بإيران.
مظاهرات العراق التى بدأت فى الأول من شهر أكتوبر الماضى كانت تطالب بتوفير فرص عمل لجيوش العاطلين وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية ووقف الانقطاعات المستمرة فى الكهرباء ومياه الشرب، لكنها سرعان ما تطورت لتطالب بمحاكمة الفاسدين الذين نهبوا ثروات البلاد، حتى وصل الأمر إلى الهتاف بإسقاط النظام، وإلغاء نظام المحاصصة الطائفية الذى يضمن سيطرة الشيعة على الدولة العراقية.
كل هذه المطالب المشروعة قابلتها الدولة العراقية كما يقول المفكر الإيطالى انطونيو جرامشى باعتبارها «شرطى فظ»، فأطلقت على المتظاهرين السلميين القنابل المسيلة للدموع لتفريقهم، وثبت بعد ذلك ان هذه القنابل التى استوردتها الحكومة العراقية من صربيا محرمة دوليا لأنها تؤدى إلى الوفاة، ثم لجأت الحكومة إلى الرصاص الحى فسقط طبقا للتقديرات المحايدة حتى الآن أكثر من 350 شهيدا و7 آلاف جريح، دون أن تنجح فى إيقاف هذه المظاهرات أو حتى تحجيمها، رغم إطلاقها وعودا باتخاذ إجراءات سريعة لتلبية مطالب ملايين العراقيين الغاضبين.
حتى الآن لا أحد يمكنه التكهن بما سوف تسفر عنه انتفاضة العراق، قد تأتى حكومة تكنوقراط لتقدم بعض المسكنات لأوجاع العراقيين، ثم تفتح بابا خلفيا للفساد والتبعية لإيران، وقد يولد من رحم هذه الانتفاضة قيادات شعبية جديرة بحكم البلاد والاتفاق مع الأطراف السنية والكردية على قواعد ديمقراطية حقيقية لإدارة الدولة، والتوزيع العادل للسلطة والثروة فيها بدون انحيازات طائفية أو عرقية.
ما يحدث فى العراق يعطى إشارات واضحة تتناغم مع الاضطرابات التى تشهدها العديد من الدول العربية، وتكشف أن نظم الحكم فى هذه الدول لم تعد تعبر عن شعوبها، وأن هذه الشعوب لم تعد تثق فى سياسات قادتها ولا فى وعودهم بتحسين ظروف حياتهم، لكن البدائل لهذه الأنظمة ليست واضحة، وهو ما يمكن أن يفتح أبوابا من الفوضى تجتاح هذه البلاد، لتظل المشكلة معلقة فى الهواء، حائرة بين أنظمة غير ديمقراطية وغير مؤهلة للحكم الرشيد، وبين شعوب غاضبة لا تمتلك نظرية ثورية لبناء دولة جديدة، ولا نخبا واعية تلتحم معها وتنير لها الطريق!
رغم كل هذا، فإن انتفاضة العراق هى خطوة على طريق قد لا يبدو طويلا كما يتوهم البعض، لتحقيق أهداف ما زلنا نسعى وراءها منذ خمسينيات القرن الماضى لبناء نظم حكم تحترم ولو الحد الأدنى من الحريات العامة وحقوق الإنسان والتمتع بثروات بلاده، بدون فقر ولا فساد ولا سجون!