معنى محبة الله .. حب الله للعبد

معنى محبة الله

بقلم / محمد صقر

معنى محبة الله

تنكب المبتدعة طريقَ محبة الله:

ومثلما انحرف الأوَّلون عن هُدَى الله وهَدْيِ رسله، وحرَّفوا الكتب والكلم؛ انحرف من الآخرين من أمة النبي الخاتم ﷺ فئام من الناس على مشارب متعددة، وإن لم يستطيعوا تحريف الكتاب والكلم -وقد حاول بعضهم- لِتَكَفُّل الله بحفظه. ومثلما افترقت الأمة المسلمة في جل القضايا التي كان ينبغي أن تجمَعَها ولا تُفرِّقها، افترقت بشأن محبَّة الله.

وإن تعجب فعجبٌ أن أعلى الناس صوتًا وأضخمهم دعوى محبَّة الله لهم هم أقل الناس احترازًا من موانعها وابتعادًا عن أسبابها.. الآخِرون في ذلك كالأوَّلين سواءً بسواء. فإذا كان الجهاد في سبيل الله -مثلًا- من أفضل ما يحصِّل به المرء محبة الله، فإن غير المجاهدين بالذات هم الأكثر تشدُّقًا بمحبة الله إياهم.

الذين قالوا لموسى أيام دعاهم S لخيري الدنيا والآخرة: ﴿قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: ٢٤]، والذين لم يتطلعوا يومًا إلى ذروة السنام؛ فأخلدوا إلى الأرض، يقللون من شأن الجهاد ويقعدون ويثبطون الناس عنه، بحجة أن أذكارهم المبتدعة وأورادهم المضيِّعة، وسماعهم ورقصهم وتخنُّثَهم؛ خيرٌ منه وأبقى، ورسول الله ﷺ يقول: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها»([1]).

 فيكتب أحد المجاهدين لصوفِيٍّ يدعوه إلى الجهاد، فيرد الصوفِيُّ: كل الثغور مجتمعةٌ لي في بيت واحد والباب عليَّ مردود. فكتب المجاهد إليه: لو لزِم الناس كلُّهم ما لزِمتَه اختلت أمور المسلمين وغلب الكفار، فلابد من الغزو والجهاد. فرد الصوفي بأن الناس لو لزموا ما هو عليه وقالوا في زواياهم وعلى سجاداتهم: (الله أكبر)؛ لانهدم سور القسطنطينية([2]).

إن هذا مثال واحد على الانحراف في الأخذ وفي الفهم وفي التطبيق؛ فمثل هذا الصوفي لم يأخذ الكتاب بقوة، ولا فهمه بثاقب نظر، ولا طبَّقه بأمانة، بل ضعُف وكذب وخان. حتى ليستطيع الحالف أن يحلف أن هذا الصوفي لم يكن موقنًا بأن ما فعله هو الصواب والمفترض، تمامًا مثلما كان فرعون غير واثق من أنه إله المصريين، وكأن الصوفِيَّ كان يقول في نفسه: ما لهذا المجاهد ولي! فليدعني للحياة!!

أليست الصوفية منغصةً على أهل الحق؟! وشوكة -شأن كل بدعة- في حلوق المتطلعين إلى نشر دين الله وسيادته وتعبيد الناس لربهم سبحانه؟!

إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: ٩]؛ فانظر إلى تأييد الله ونصره أولياءَه الذين يحبهم.. ذلك التأييد والنصر والحب الذي خسره الرعاديد من أمثال هذا الصوفِيِّ الذي يحتج على دين الله الخاتم ببدعٍ ما أنزل الله بها من سلطان!!

ثم انظر كم يحب الله التائبين المستغفرين، وكم يربَحون؟! وكم يخسر الغافلون المعاندون الذين لا يدعون الله ولا يستغفرون؟!!

نعم، إن محبة الله تعالى العباد سبقت محبتَهم إيَّاه تعالى؛ بل إن محبته تعالى عباده سبقت أعمالهم؛ فسبقت اجتناب النواهي من موانع محبته، وسبقت طاعة الأوامر من الأخذ بأسبابها.. أليس سبحانه من خلق أباهم بيديه، وعلَّمه الأسماء كلها، وأسجد له الملائكة، وتاب عليه لما عصى؟!

ثم إنه سبحانه من يغذُوهم بنعمته، ويمهلهم ما عصوه، ويغفر لهم ما استغفروه؛ فأين يجدُون إلهًا مثله؟! سبحانه: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَكَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿١١﴾،و( رَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴿١٣) [الشورى: ١١-١٣].

 إن الله تعالى أخرجنا من العدم إلى الوجود لا لشر أراده بنا، بل أراد بنا الإكرام والإنعام والتوبة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: ٧٠].

وقال تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: ١١٨]. وما في حياة الناس من أمور لا ترضيهم فإنهم أسبابها.. ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: ٤١]، ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: ٧٩].

أليس هو سبحانه من جعل لنا السمع والأبصار والعقول.. ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ﴿٧﴾)-،و(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴿٩)) [السجدة: ٧-٩].

وهل يفعل هذا إلا إلهٌ يريد الخير بمألوهِيهِ، وربٌّ برٌّ بمربوبيه؟! فقارن حال هؤلاء الجهال المبتدعة بحال السلف الصالحين؛ حيث أسند البيهقي في «الشعب»، عن أبي سيف الزاهد أنه قال: «ما نحب أن يليَ حسابَنا غير الله؛ لأن الكريم يجاوز»، ومن طريق الثوري قال: «ما أحب أن حسابي جعل إلى والدي، ربي خير لي من والدي».

ألم يُنـزل الله إلينا الدين والهدى؟! ولم ذلك لو لم يكن يحبنا؟! نعم، إنه لإقامة الحجة الرسالية علينا كما قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٦٥].

لكن الله جل شأنه أراد للناس الهدى لا الضلال، بدليل أنه دعا إلى الأول وحذر من الثاني؛ فقد قال الله قبل ذلك إنه أرسل رسلًا للناس عبر التاريخ كله وفي الأمم جميعها؛ ليبشروا المهتدين وينذروا الضالين: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴿١٦٣﴾،- و( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿١٦٥﴾[النساء: ١٦٣-١٦٥].

فكيف يفهم هؤلاء المتنكِّبون الطريق الواصلة إلى العلي العظيم؟! وبأي طريقة من طرق التفكير العوجاء يفكرون؟! بل ماذا يريدون أصلًا إن لم يريدوا محبة الكبير سبحانه؟!

فإن كانوا يريدون مالًا فإن لله خزائنَ السموات والأرض وهو الكريم ذو الفضل العظيم، وإن كانوا يريدون جاهًا فإنه هو المعزُّ المذل، وإن كانوا يريدون ملكًا فإنه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينـزع الملك ممن يشاء.. ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ۗ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٧٨].

إن أقوامًا خسروا أنفسهم يضلون الناس بعد ضلالهم.. نعرف الأسباب التي تحملهم على ذلك، تلك التي منها: ضعف عقولهم وغلبة البلادة والجهل عليهم، وحقدهم على الإسلام الذي أدال دُوَلَ أسلافِهم، والتطلع إلى التسلط والاستعلاء وحب الرياسة، وحب التميز عن العوام والسواد الأعظم (أهل السنة والجماعة).

والتفلسف والانقياد للعقل في طريق الإلحاد([3]). هؤلاء الذين تلتقي أصولهم، برغم تفرقهم وانقسامهم على أنفسهم، فيثبت لذي عينين أنهم ما فارقوا قول اللطيف الخبير: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا 50﴾- ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ﴿٥١) [الإسراء: ٥٠، ٥١].

قيد أنملة.. يقولون: إن للشريعة ظاهرًا وباطنًا، وإن للعلم مدينةً وبابًا، وإن العقل يسبق الوحي ويحكم عليه. ثم يقولون: إنهم -أو ضُلَّالهم- غواصون في باطن الشريعة، وحجاب على باب العلم، وعقلاء أذكياء.

فإن لفظة الباب متداولة كثيرًا عند الصوفية وعند بعض فرق الباطنية، يطلقونها على بعض أركان دعوتهم بمعنى أنهم هم واسطة الدخول وسبب الوصول.

فهل ترى فيما نحن بصدده من أمر محبَّة الله العباد -وهي من أكبر الأمور بل أكبرها بإطلاق- شيئًا مما أرجف به أصحاب المصالح الخاصة هؤلاء؟ أفتحتاج هذه المحبة إلى وسائط من خارج نفسك؟ أم أنه لا مخلص لك من موانعها إلا أنت بعد معونة الله ولطفه؟ ولا جامع لأسبابها فيك إلا ربك بعد الاستعانة به وحده لا شريك له؟!

ولِمَ لَمْ يُخَلِّص هذا الدعيُّ نفسه من أوشابها وأوزارها التي منعته من محبة ربه؟! ولِم لَم يجمع أسباب محبَّة الله في نفسه الفارغة من كل قيمة؟! إن فاقد الشيء لا يعطيه.. فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.