معنى التوكل .. السبب الثالث عشر للحصول على محبة الله

معنى التوكل([1]):

التوكل هو: صدقُ اعتمادِ القلب على الله D في استِجلاب المصالح ودفع المضارِّ في أمور الدنيا والآخرة، وقد جعل اللهُ D لكل عملٍ من أعمال البر ومقام من مقاماته جزاءً معلومًا، وجعل نفسَه جزاء المتوكل عليه وكفايَتَه؛ فقال تعالى: ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾ [الطلاق: ٢]، وقال: ﴿ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ [النساء: ٦٩] الآية، ثم قال في التوكل: ﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ [الطلاق: ٣]؛ فانظر إلى هذا الجزاء الذي حصل للمتوكل ولم يجعلْه لغيره، وهذا يدلُّ على أن التوكُّل من أقوى السُّبُل عنده وأحبِّها إليه، وقال الله تعالى: ﴿ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [الزمر: ٣٦]؛ فطالِبُ الكفاية من غيره هو التاركُ للتوكل.

وقال D: ﴿ﭲ ﭳ ﭴ﴾ [الأحزاب: ٣]، وإذا كان كفَى به وكيلًا فهذا مختصٌّ به سبحانَه ليس غيره من الموجودات كفى به وكيلًا؛ فإنَّه من يتخِذ من المخلوقين وكيلًا غايته أن يفعلَ بعض الأمور، وهو لا يفعلها إلا بإعانةِ اللهِ له وهو عاجِزٌ عن أكثر المطالب، فإذا كان سبحانَه وصف نفسَه بأنه كفى به وكيلًا؛ عُلِمَ أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاجُ معه إلى غيره في جَلْب المنافع ودفع المضارِّ؛ إذ لو تبقَّى شرٌّ لم يكن كفَى به وكيلًا، وهذا يقتضي بطلانَ ظنِّ أن المتوكل لا يحصُل له بتوكله عليه جلبُ منفعةٍ ولا دفعُ مضرةٍ، بل يجري كما لو لم يتوكلْ عليه.

وينبغي أن يُعلم أن التوَكُّل من أعمال القلوب وليس من أعمال الجوارح؛ فليس هناك منافاةٌ بين التوكل والأخذِ بالأسباب، فالنبيُّ ﷺ أعظمُ المتوكِّلين على الله D فهذَا حالُه، والكسبُ سنتُه، فمن عمِل على حاله فلا يتركَنَّ سنتَه، وقيل: عدمُ الأخذ بالأسباب طعنٌ في التشريع، والاعتقادُ في الأسباب طعنٌ في التوحيد.

والذين يقولون بترك الأسباب جُمْلةً ادعوا لأنفسهم حالًا أكملَ من حالِ رسول الله ﷺ وأصحابه M؛ إذ لم يكن فيهِم أحدٌ قطُّ يفعل ذلك، ولا أخلَّ بشيءٍ من الأسباب، وقد ظاهرَ رسولُ الله ﷺ بين درعين يوم أُحُد، ولم يحضر الصفَّ قطُّ عريانًا كما يفعله من لا عِلم عنده ولا معرفة، واستأجر دليلًا مُشرِكًا على دين قومِه يدلُّه على طريق الهجرة، وقد هدى الله به العالمين وعصمه من الناس أجمعين، وكان يدَّخِر لأهله قوتَ سنة وهو سيِّد المتوكلين.

وكان إذا سافر في جهادٍ أو حجٍّ أو عُمرة حمل الزاد والمزاد، وجميعُ أصحابه وهم أهل التوكل حقًّا، وأكملُ المتوكلين بعدهم هو من اشتمَّ رائحة توكلهم أو لحِق أثرًا من غُبارهم؛ فحالُ النبي ﷺ وحال أصحابه محكُّ الأحوال وميزانها، بها يُعلَم صحيحُها من سقيمها؛ فإن هِمَمَهم في التوكل أعلى من همم من بَعدَهم؛ فإنَّ توكلَهم كان في فتح بصائر القلوب، وأن يُعبد اللهُ في جميع البلاد، وأن يوحِّدَه كلُّ العباد، وأن تُشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد.

فملئوا بذلك التوكل القلوبَ هدًى وإيمانًا، وفتحوا بلاد الكفر وجعلوها دارَ إيمان، وهبَّت رياحُ روح نسمات التوكل على قلوب أتباعهم فملأتها يقينًا وإيمانًا؛ فكانت همم الصحابة M أعلى وأجلَّ من أن يصرِف أحدُهم قوَّة توكله واعتماده على الله في شيءٍ يحصل بأدنى حيلةٍ وسعي، فيجعله نصبَ عينيه ويحمل عليه قوى توكله؛ فحقيقة التوكل اعتمادُ القلب على الله وحدَه، والثقة به وحده، والسكون إليه وحده، والطمأنينةُ به وحده؛ لعلمه أن حاجاته وفاقاتِه وضروراتِه وجميع مصالحه كلها بيده وحده لا بيد غيره، فأين يجد قلبُه مناصًا من التوكل بعد هذا؟!!

أقسام أعمال العباد بخصوص التوكل([2]):

القسم الأول: الطاعات التي أمر اللهُ بها عبادَه وجعلها سببًا للنجاة من النار ودخول الجنة؛ فهذا لابد من فعله مع التوكل على الله D فيه والاستعانة به عليه؛ فإنَّه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكُن، فمن قصَّر في شيء مما وجب عليه من ذلك استَحق العقوبة في الدنيا والآخرة شرعًا وقدَرًا. قال يوسف بن أسباط: يقال: اعمَل عمَل رجلٍ لا ينجيه إلا عملُه، وتوكَّل توكُّل رجل لا يصيبه إلا ما كُتِب له.

القسم الثاني: ما أجرى الله به العادة في الدنيا وأمر عبادَه بتعاطيه؛ كالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش، والاستظلال من الحرِّ، والتدفُّؤ من البرد ونحو ذلك؛ فهذا أيضًا واجبٌ على المرء تعاطي أسبابِه، ومن قصَّر فيه حتى تضرر بتركه مع القدرة على استعماله فهو مفرِّط يستحقُّ العقوبة.

القسم الثالث: ما أجرى الله العادةَ به في الدنيا في الأعمِّ الأغلب، وقد يخرِق العادةَ في ذلك لمن شاء من عبادِه، وهي أنواعٌ؛ كالأدوية مثلًا، وقد اختلف العلماء: هل الأفضلُ لمن أصابه المرض التداوي أم تركُه لمن حقَّق التوكلَ على الله؟ فيه قولان مشهوران، وظاهر كلام الإمام أحمد أن التوكُّل لمن قوِيَ عليه أفضل؛ لقوله ﷺ: «يدخل من أمتي الجنَّةَ سبعون ألفًا بغير حساب»، ثم قال: «همُ الذين لا يتطيَّرون ولا يسترقُون ولا يكتوُون وعلى ربهم يتوكلون»([3])، ومن رجح التداوي قال: إنه حالُ النبيِّ ﷺ الذي كان يداوِم عليه، وهو لا يفعل إلا الأفضل، وحمَل الحديث على الرُّقى المكروهة التي يخشى منها الشرك، بدليل أنه قرنها بالكَيِّ والطيرة، وكلاهما مكروه.

قال مجاهد وعكرمة والنخْعيُّ وغير واحدٍ من السلف: لا يرخص في ترك السبب بالكليَّة إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية. وسئِل إسحاق بن راهويه: هل للرجل أن يَدخل المفازة بغير زاد؟ فقال: إن كان الرجل مثل عبد الله بن جبير فله أن يدخُل المفازة بغير زاد، وإلا لم يكن له أن يدخل([4]).


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.