مستضيء الفهم والعقل .. متَّحِدَ الهمِّ والشمْل لمحبَّة الله تعالى عبدًا
ثانيًا- أن يكونَ مستضيءَ الفهْم والعقْل:
إن المقصودَ بالعقل في الإسلام ليس المخَّ كما يتوهَّم أهلُ العصر؛ بل هو بمعنى اللبِّ والفؤاد والقلب؛ كما جاءَ في القرآن الكريم، وثباتُ القلبِ على الحقِّ والدين هو من فعل الله MD لا يستطيعُه بشرٌ مهما احتَرَز، ومن ثم كان النبي ﷺ يكثر أن يقول: «يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على طاعتِك»([1])، كما روى غيرُ واحدٍ من الصحابة.
قال العلماءُ: وإذا كانت الهدَايةُ إلى الله مصروفةً، والاستقامة على مشيئتِه موقوفةً، والعاقبة مغيَّبة، والإرادةُ غيرَ مغالَبة؛ فلا تعجب بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قُرْبِك؛ فإنَّ ذلك وإن كان من كسبك، فإنه من خلْق ربِّك وفضلِه الدَّارِّ علَيك وخيرِه، فمهما افتخرت بذلك كنت كالمفتخر بمتاعِ غيره.
وربما سُلِب عنك فعاد قلبُك من الخير أخلى من جوْف البعير؛ فكم من روضةٍ أمسَت وزهرها يانعٌ عميم فأصبحت وزهرها يابِسٌ هشيم، إذ هبَّت عليها الريحُ العقيم؛ كذلك العبد يمسِي وقلبه بطاعة الله مشرقٌ سليم، فيصبح وهو بمعصيةٍ مظلم سقيم.. ذلك فعل العزيز الحكيم الخلاق العليم([2]).
وعن أمير المؤمنين عثمان I قال: «اجتنِبوا الخمرَ فإنها أمُّ الخبائث؛ إنه كان رجلٌ ممن كان قبلكم تعبَّد فعلِقت امرأةٌ غويَّة، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنَّا ندعوك للشهادة. فانطلَق مع جاريتها، فطفقت الجاريةُ كلَّما دخل بابًا أغلقته دونه حتى أفضت إلى امرأة وضِيئةٍ -أي جميلة- عندها غلامٌ وباطيةُ خمْر، فقالت: إني والله ما دعوتُك للشهادة ولكن دعوتُك لتقعَ عليَّ أو تشربَ من هذه الخمر كأسًا أو تقتلَ هذا الغلام، قال: فاسقِني من هذه الخمر. فسقَته كأسًا؛ قال: زيدُوني. فلم يزل يشربُ حتى وقعَ عليها وقتل الغلامَ؛ فاجتنبوا الخمر، فإنَّه والله لا يجتمعُ الإيمانُ وإدمانُ الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدُهما صاحبَه»([3]).
ولم نقع في القرآن والسنَّة على ما نستشهِدُ به على استضاءة فهم وعقلِ من يحبُّه الله؛ لكنَّه أمرٌ يدرك بداهةً، ويستنْبَط من رُوح الشريعة؛ إذ لا شك أن من يُزَكِّي نفسَه من موانع محبَّة العليِّ الكبير يكون أضوأَ فهمًا وعقلًا من الواقع فيها، ولا شك أيضًا أن من يأخذ بأسباب محبَّتِه تعالى هو الآخر يكونُ كذلك؛ وإلا فأيُّ إنسان أضوأ فهمًا وعقلًا من متَّبِع النبي ﷺ، المخلِصِ في عبادته، والمتخلِّق بمكارم الأخلاق، والمحسن في الأمور كلها؟!
ثالثًا- أن يكون متَّحِدَ الهمِّ والشمْل:
وكما أن المحبوبَ من الله يكون منشرِحَ الصدْر مستضيءَ الفهم والعقل، فكذلك يكون متَّحِدَ الهم؛ أيْ: يكون همُّه واحدًا وشمله مجتمعًا. يقول النبي ﷺ: «من كانَ همُّه الآخِرَة؛ جمَع الله شمله وجعل غِناه في قلبه وأتتْه الدنيا وهي راغِمة، ومن كانت نيَّتُه الدنيا؛ فرَّق الله عليه ضيْعته، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له»([4])، ويُقال: جمَع الله شمله؛ أيْ: ما تشتَّت من أمرِه، وفرَّق الله شمله؛ أي: ما اجتمع من أمرِه، فهو من الأضداد([5]).
فهذا دليلٌ على اتحاد همِّ المحبوب من الله تعالى، وقد سبَق أن الزهد في الدنيا من أسباب محبَّته سبحانه عبده، وإن كان هذا كسابِقِه مما يدرَك بالبدَاهة وروحِ الشريعة؛ إذْ من يحبُّهُ اللهُ لابد أنه يريحُه، ولا راحةَ مع تفرُّق الشمل والهمِّ، ومن يحبُّه الله يستخلِصْه، ومن يستخلصه لا يأبَه بالدنيا، وكذا فإنَّ الآخذَ بأسباب تحصيل محبَّة الله والمحتَرِز من موانعِها يكونُ همُّه في تحصيل هذا الكنـز الثمين، فلا ينشغل بغيرِه من السفساف والتفاهات.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5)«أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
بقلم / محمد صقر
تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.