محبة الله للمتوكلين .. الحصول على محبة الله
محبة الله للمتوكلين
وقد وردت محبَّة الله للمتوكلين في آيةٍ واحدة في كتاب الله .. قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: ١٥٩]:
وقد وردت هذه الآية في سياق الحديث عن غزوة أحد، وقبلها أخبر المولى D عمن تولَّوا، وهم: من تولى عن المشركين يوم أحد في قول عمر وغيره، أو من هرَب إلى المدينة في وقت الهزيمة من دون من صعد الجبل؛ قاله السدّي، أو قومٌ بأعيانهم تخلَّفوا عن النبي ﷺ في وقت الهزيمة ثلاثة أيام ثم انصرفوا؛ قاله بعضهم.
وقد أخبر تعالى بأنهم استزلهم الشيطان، وأنه سبحانه غفر لهم إنه هو الغفور الرحيم. ثم نهى الله تعالى المسلمين عن أن يقولوا كما قال المشركون والمنافقون في الشهداء: (لو كانوا عندنا -أي لم يخرجوا للغزو- ما ماتوا وما قتلوا)، وأنبأ تعالى بأن المسلمين لو قُتلوا أو ماتوا لمغفرته ورحمته خير مما يجمع هؤلاء المنافقون، وأنهم إن قتلوا أو ماتوا لإلى الله يحشرون. وبعد الآية التي عليها الحديث أخبر تعالى بأن المؤمنين هم المتوكِّلون على الله، وأمر المؤمنين بالتوكل عليه سبحانه فقال: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: ١٦٠]..
وقال السعدِي: وفي هذه الآية الأمرُ بالتوكل على الله وحده، وأنه بحسب إيمان العبد يكون التوكل([1]).
وقال القرطبي: التوكل الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التُّكلان، يقال منه: اتكلت عليه في أمري، وأصله: «اوتكلت»، قلتُ: قُلِبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها، ثم أُبدِلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال، ويقال: وَكَّلْته بأمري توكيلًا، والاسم الوكالة -بكسر الواو وفتحها.
واختلف العلماء في التوكل؛ فقالت طائفة من المتصوِّفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبَه خوفُ غير الله من سَبُعٍ أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى. وقال عامَّة الفقهاء ما تقدم ذكره، وهو الصحيح كما بيَّناه، وقد خاف موسى وهارونُ بإخبار الله تعالى عنهما في قوله: ﴿قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ﴾ [طه: ٤٦]، وقال: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ ﴾،( قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىٰ) [طه: ٦٧، ٦٨]، وأخبر عن إبراهيم بقوله: ﴿فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [هود: ٧٠]، فإذا كان الخليلُ والكليمُ قد خافا -وحسبُك بهما- فغيرُهما أولى. اه.
والخوف لا يُعارض التوكل، بل هو مقدمةٌ له وباعثٌ عليه أحيانًا؛ إذ كلُّ إنسانٍ يخاف، مما يجعله يلتجئ إلى من عنده الأمان من خوفِه؛ فإن كان مؤمنًا التجأ إلى الله وحدَه، وإن كان غير ذلك -نعوذُ بالله- التجأ إلى ما التجأ إليه. والخوفُ في ذلك كالفقر والمرض والجهل كلها أسبابٌ لذلك، فالعزيز من ذلَّ نفسه لله وطلب منه؛ لأنه بذلك يكون عزيزًا على أمثاله من العباد، والذليل من لم يذكر الله ولم يلجأ إليه حينما يفتقر أو يمرض أو يخاف أو يجهل؛ فتراه يتذلل لهذا ولذاك.. يقول لهذا: أعطني، ولهذا: طببني، ولهذا: علمني، ولهذا: آوِني. فمنهم من يدفعه ويحتقره، ومنهم من يفعل به الخير ويمنُّ عليه، وكلُّهم يعامله بترفُّعٍ وتعالٍ، إلا ما رحم ربي.
خلاصة هذا السبب:
أنه يجبُ التوكل في كل أمرٍ يعتزمه الإنسان؛ فالله تعالى أمر بالتوكل عليه وحدَه، وذلك مع الأخذ بالأسباب؛ لأنه سبحانه بيَّن أن التوكل يكون بحسب إيمان العبد، فأمر اللهُ تعالى بالأخذ بالسبب؛ لأن الكون بُني على السنن والنواميس، ولما كان الغالبُ على الناس الأخذُ بالسبب طلبًا للدنيا؛ فقد جعل التوكل ليميِّز من يعلم أن الله تعالى هو المسبب أم ما أخذ به من السبب، والله أعلم.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.