متى شرع الجهاد والإذن فيه؟ 

متى شرع الجهاد والإذن فيه؟ 

وانسلاخُها انقضاءُ المدَّة المتتابعة منها، وقد بقيت حرمتها ما بقِي من المشركين قبيلةٌ لمصلحة الفريقين، فلما آمن جميع العرب بطل حكم حرمة الأشهر الحرم؛ لأن حُرمة المحارم الإسلامية أغنت عنها.. والأمرُ في ﴿ﮬ ﮭ﴾ للإذن والإباحة باعتبار كل واحدٍ من المأمورات على حدَة؛ أيْ: فَقَد أذِن لكم في قتلهم وفي أخذهم وفي حصارهم، وفي منعهم من المرور بالأرض التي تحت حكم الإسلام، وقد يعرَض الوجوبُ إذا ظهرت مصلحةٌ عظيمة، ومن صُور الوجوب ما يأتي في قوله: ﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾ [التوبة: ١٢]،والمقصودُ هنا: أن حُرمة العهد قد زالت.

وفي هذه الآية شُرِع الجهادُ والإذن فيه، والإشارة إلى أنهم لا يقبل منهم غير الإسلام. وهذه الآية نسخت آياتِ الموادعة والمعاهدة([1]). وقد عمَّت الآية جميع المشركين وعمَّت البقاع إلا ما خصصته الأدِلَّة من الكتاب والسنة.

والأخذ: الأسر. والحصْر:

المنع من دخول أرض الإسلام إلا بإذنٍ من المسلمين. والقعود مجاز في الثبات في المكان والملازَمة له؛ لأن القعود ثبوتٌ شديد وطويل، فمعنى القعود في الآية المرابَطة في مظانِّ تطرُّق العدو المشركين إلى بلاد الإسلام.

وفي مظانِّ وجود جيش العدُوِّ وعدته. والمرصد: مكان الرصد، والرصد: المراقبة وتتبُّع النظر. و(كُلّ) مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها؛ تحذيرًا للمسلمين من إضاعتهم الحراسةَ في المراصد فيأتيهم العدُوُّ منها، أو من التفريط في بعض ممارِّ العدُوِّ فينطلق الأعداء آمنين فيستخفوا بالمسلمين، ويتسامَع جماعاتُ المشركين أن المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة؛ فيؤول معنى (كُلّ) هنا إلى معنى الكثرة، للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد، كقول النابغة:

بها كل ذيَّال وخنساء ترعوي إلى كل رجّافٍ من الرمل فارد#تنسيق شعر#

﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ﴾ تفريعٌ على الأفعال المتقدِّمة في قوله: ﴿ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ﴾، والتوبَة عن الشرك هي الإيمان؛ أي: فإن آمنوا إيمانًا صادقًا بأنْ أقاموا الصلاة الدالَّة إقامتها على أن صاحبها لم يكن كاذبًا في إيمانِه، وبأن آتوا الزكاة الدالّ إيتاؤها على أنهم مؤمنون حقًّا؛ لأن بذل المال للمسلمين أمارةُ صدق النيَّة فيما بُذِل فيه؛ فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شرطٌ في كفِّ القتال عنهم إذا آمنوا، وليس في هذا دلالةٌ على أن الصلاة والزكاة جزءٌ من الإيمان([2]).

وحقيقة ﴿ﯞ ﯟ﴾: اتركوا طريقَهم الذي يمرُّون به؛ أي اتركوا لهم كل طريق أمِرْتُم برصدهم فيه؛ أي اتركوهم يسيرون مجتازين أو قادمين عليكم، إِذ لا بأس عليكم منهم في الحالتين؛ فإنهم صاروا إخوانكم، كما قال في الآية الآتية: ﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ [التوبة: ١١]، وهذا المركَّب مستعمل هنا تمثيلًا في عدم الإضرار بهم ومُتَاركتهم.. يقال: خلِّ سبيلي، أي: دعني وشأني؛ كما قال جرير:

خَـلِّ السبيل لمن يبني المنارَ بِه .. وابرُز ببرزة حيث اضطرك القدَر#تنسيق شعر#

وهو مقابل للتمثيل الذي في قوله: ﴿ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ﴾.

وجملة ﴿ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ﴾ تذييلٌ أريدَ به حثُّ المسلمين على عدم التعرُّض بالسوء للذين يُسلِمون من المشركين وعدم مؤاخذتهم لما فرط منهم، فالمعنى: اغفِرُوا لهم؛ لأنَّ الله غفر لهم وهو غفور رحيم، أو اقتدُوا بفعل الله إذْ غفَر لهم ما فرَط منهم، كما تعملون فكونوا أنتم بتلك المثابة في الإغضاء عما مضى.

﴿ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾ عطف على جملة ﴿ﯘ ﯙ﴾؛ لتفصيل مفهوم الشرط، أو عطف على جملة ﴿ﮬ ﮭ﴾؛ لتخصيص عمومِه؛ أي: إلا مشركًا استجارَك لمصلحةٍ للسفارة عن قومِه أو لمعرفة شرائع الإسلام. وصِيغَ الكلامُ  بطريقة الشرط لتأكيد حكم الجواب، وللإشارة إلى أن تقع الرغبة في الجوار من جانب المشركين، وجيء بحرف (إن) التي شأنها أن يكون شرطُها نادرَ الوقوع؛ للتنبيه على أن هذا شرطٌ فرْضي؛ لكيلا يزعمَ المشركون أنهم لم يتمكنوا من لقاء النبي ﷺ فيتخذوه عذرًا للاستمرار على الشرك إذا غزاهم المسلمون.

وجيء بلفظ ﴿ﯧ ﯨ ﯩ﴾ دون لفظ: مشرِك؛ للتنصيص على عموم الجنس؛ لأن النكرة في سياق الشرط مثلها في سياق النفي، إذا لم تُبْنَ على الفتح احتملت إرادةَ عموم الجنس واحتملت بعضَ الأفراد، فكان ذكر ﴿ﯧ﴾ في سياق الشرط تنصيصًا على العموم بمنـزلة البناء على الفتح في سياق النفي بلا. ولعل المقصود من التنصيص على إفادة العموم.

ومن تقديم ﴿ﯧ ﯨ ﯩ﴾ على الفعل؛ تأكيدُ بذل الأمان لمن يسأله من المشركين إذا كان للقائه النبيَّ ﷺ ودخولِه بلادَ الإسلام مصلحةٌ، ولو كان أحدٌ من القبائل التي خانت العهد؛ لئلا تحمِل خيانتُهم المسلمين على أن يخونوهم أو يغدروا بهم، فذلك كقوله تعالى: ﴿ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [المائدة: ٢]، وقول النبي ﷺ: «ولا تخُن من خانك»([3]).

والاستِجَارة: طلبُ الجُوار وهو الكون بالقرْب، وقد استعمل مجازًا شائعًا في الأمن؛ لأنَّ المرءَ لا يستقرُّ بمكانٍ إلا إذا كان آمنًا، فمن ثَمَّ سَمُّوا المؤمَّن جارًا والحليفَ جارًا، وصار فعل أجار بمعنى أمَّن، ولا يُطلَق بمعنى جعل شخصًا جارًا له. والمعنى: إنْ أحدٌ من المشركين استأمنك فأمِّنه. ولم يبيِّن سببَ الاستجارة؛ لأنَّ ذلك مختلِفُ الغرَض، وهو موكول إلى مقاصد العقلاء؛ فإنه لا يستجير أحدٌ إلا لغرَض صحيح، ولما كانت إقامة المشرك المستجير عند النبي -عليه الصلاة والسلام.

لا تخلو من عرْض الإسلامِ عليه وإسماعِه القرآن، سواءً كانت استجارتُه لذلك أم لغرَضٍ آخر؛ لما هو معروفٌ من شأنِ النبيِّ ﷺ من الحرص على هُدى الناس؛ جعل سماع هذا المستجير القرآن غايةً لإقامته الوقتيَّة عند الرسول ﷺ، فدلت هذه الغاية على كلامٍ محذوفٍ إيجازًا.

وهو ما تشتمل عليه إقامةُ المستجير من تفاوض في مهمٍّ أو طلب الدخول في الإسلام أو عرض الإسلام عليه. فإذا سمِع كلامَ الله فقد تمت أغراض إقامته؛ لأن بعضَها من مقصد المستجير وهو حريص على أن يبدأ بها، وبعضها من مقصد النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- وهو لا يتركه يعود حتى يعيد إرشادَه، ويكون آخرَ ما يدور معه في آخر أزمان إقامته إسماعُه كلام الله تعالى.

وكلامُ الله: القرآنُ، أضيفَ إلى اسم الجلالة لأنه كلامٌ أوجده الله؛ ليدلَّ على مرادِه من الناس، وأبلغَه إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- بواسطةِ الملَك، فلم يكن من تأليف مخلوقٍ، ولكن الله أوجدَه بقدرتِه بدون صُنْع أحدٍ بخلاف الحديثِ القدسي؛ ولذلك أعقَبَه بحرف المهلة ﴿ﯰ ﯱ ﯲ﴾ للدلالة على وُجوب استمرار إجازته في أرض الإسلام إلى أن يبلغ المكان الذي يأمن فيه، ولو بلغه بعد مدَّةٍ طويلة.

فحرف (ثم) هنا للتراخي الرُّتْبي اهتمامًا بإبلاغه مأمنَه، ومعنى ﴿ﯱ ﯲ﴾: أمهِلْه ولا تُهِجْه حتى يبلغ مأمنه، فلما كان تأمينُ النبي -عليه الصلاة والسلام- إيَّاه سببًا في بلوغه مأمنَه.

جعل التأمين إبلاغًا فأمَرَ به النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- وهذا يتضمن أمر المسلمين بأن لا يتعرَّضوا له بسوء حتى يبلغ بلادَه التي يأمَن فيها. وليس المرادَ أن النبي ﷺ يتكلف ترحيلَه ويبعثُ من يبلغه؛ فالمعنى: اتركه يبلغ مأمنَه، كما يقول العرب لمن يبادرُ أحدًا بالكلام قبل إنهاء كلامه: «أبلعني ريقي»؛ أي: أمهلني لحظة مقدار ما أبلع ريقي ثم أكلِّمُك. قال الزمخشري: «قلت لبعض أشياخي: أبلعني ريقي، فقال: قد أبلعتك الرافدَين» يعني: دجلة والفرات.

(والمَأْمَن) مكان الأمن، وهو المكان الذي يجد فيه المستجيرُ أمنَه السابق، وذلك هو دارُ قومِه حيثُ لا يستطيع أحدٌ أن ينالَه بسوء. وقد أضيف المأمن إلى ضمير المشرك للإشارة إلى أنه مكانُ الأمْنِ الخاصّ به؛ فيعلم أنه مقرُّه الأصلي بخلاف دار الجوار فإنها مأمنٌ عارض لا يُضافُ إلى المُجار.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.

بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.