المانع الحادي عشر من محبة الله عبدًا .. ماذا عن قطع الأرحام

ماذا عن قطع الأرحام

فعن قتادة عن رجلٍ من خثعم، قال: قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أبغضُ إلى الله؟ قال: «الإشراك بالله»، قال: قلت: يا رسول الله! ثم مه؟ قال: «ثم قطيعة الرحم» الحديث([1]).

معنى الرحم:

الرُّحْمُ -بالضم- والرُّحُم -بضمتين- وقال أبو إسحاق في قوله تعالى: ﴿ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ [الكهف: ٨١]؛ أي: أقرب عطفًا وأمس بالقرابة، وهو مثل عُسْر وعُسُر، والفعل من كلها: رَحِمَ كعَلِم، والرَّحِم رحم الأنثى، وهي مؤنثة، ومن المجاز الرحم: القرابة، تجمع بني أبٍ، وبينهما رحم؛ أي قرابة قريبة، الرحم: أصلها وأسبابها، والرحم أسباب القرابة وأصلها الرحم التي هي منبت الولد، وهي الرحم، هي علاقة القرابة وسببها([2]).

وذو الرحم هم الأقاربُ، ويقعُ على كُلِّ من يجمع بَيْنك وبينه نَسَب، ويُطْلق في الفَرائِض على الأقارب من جهة النِّساء.. يقال: ذُو رَحِمٍ مَحْرم ومُحَرَّم، وَهُم من لا يَحلُّ نِكاحُه؛ كالأمِّ والبنت والأخت والعمة والخالة([3]). وجمع رحم: أرحام، لا يكسر على غير ذلك([4]).

قطعُ الرحم:

فقد رتب هذا الحديث الثلاثة الأُوَل من موانع حصول محبة الله تعالى للعباد، وثنَّى بقطيعة الرحم بعد الكفر والشرك مباشرةً، كما رتَّب أسباب تحصيل محبة الله تعالى الثلاثة الأول، وثنى بصلة الرحم بعد الإيمان بالله تعالى. وقد كان من منهجنا في هذا الكتاب أن نقدِّم ما جاء فيه نص من القرآن على ما جاءت به نصوص السنة؛ لكن ما دمنا -كأهل سنة- نعتبر السنة المشرَّفة هي الوحي الثاني.

وما دام الحديث قد صحَّ؛ فإنه يجب اتباع السنة في ترتيب موانع حصول محبَّة الله تعالى عبادَه وأسباب تحصيلها، خاصة وأن القرآن لم يرتب لا هذه ولا تلك، بل إن القرآن رتب الصلة بعد الإيمان والإحسان إلى الوالدين في غير ما موضع، والضدّ بالضد.. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: ١]؛ فجعل الله تعالى الرحم ملازمةً لتقواه سبحانه، وقال D: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: ٣٦]؛ فجعلها سبحانه تاليةً لعبادته تعالى والإحسان إلى الوالدين.

ومع أن القرآن لم يصرِّح بأن قطيعة الأرحام مانعٌ من حصول محبَّة الله تعالى لعبادِه، ولا بأن صلتها سببٌ لتحصيلها؛ فإنه حضَّ على الصلة -كما سيأتي في الباب الثالث إن شاء الله- ونفَّر من القطيعة.. قال تعالى: ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾.. قال الطبري: بمعنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها؛ لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهر من الأسماء على مكنيٍّ في حال الخفض إلا في ضرورة شعرٍ على ما قد وصفت قبلُ([5])، وقال D: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنْكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الأنفال: ٧٥، الأحزاب: 6].. فبين الله تعالى أن القرابة أولى من الحلف، فتركت الوارثة بالحلف وورثوا بالقرابة([6]).

وقال ﷺ: «لا يدخل الجنة قاطع»([7])؛ أي قاطع رحم، والمراد به هنا من استحل القطيعة، أو أي قاطع، والمراد: لا يدخلها قبل أن يحاسب ويعاقب على قطيعته، وقطع الرحم هو ترك الصلة والإحسان والبر بالأقارب([8])، وعن أبي هريرة I عن النبي ﷺ قال: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب؛ قال: فهو لك». قال رسول الله ﷺ: «فاقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾[محمد: ٢٢]»([9])، وعن عبد الرحمن بن عوف I قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قال الله تعالى: أنا الرحمن وهي الرحم، شققتُ لها اسمًا من اسمي، من وصلها وصلته ومن قطعها بتَتُّه»([10]).

وإذن فالرحم مشتقة من اسم الله الرحمن، وقد توعَّد E من قطعها بقطعه، وهو E لا يقطع إلا من يبغضه.

هذا، وقد شاع في زماننا هذا قطع الأرحام تحت ذرائع عدَّة، منها على سبيل المثال:

1- الانشغال بالعمل، الذي لا يعدو كونه من أجل كسب المعاش الدنيوي؛ فانظر كيف يبيع الخاسرُ النفيسَ بالرخيص؛ فيمنعه تحصيل الرزق المكفول له من تحصيل محبة العزيز الكريم سبحانه؟!

2- اعتبار بعضهم أن وقت زيارة الأقارب ضائعٌ فيما لا طائل من ورائه.

3- خشية بعضهم من صدود أقاربه له إذا ما وصلهم، وتأتي في ذلك جملة تأويلات فاسدة لكلامهم وسلوكياتهم معه، فيجلس وكأنه حسيبٌ رقيب يحصي كل حركةٍ ويئوِّل كل كلمة، وكأنه يتلمَّس سببًا يتكئ عليه ليقطع رحمه.

4- خشية بعضهم أن يطلب بعض أرحامه شيئًا منه، فيقطعهم لذلك.

5- اعتقاد بعضهم -وخاصةً النساء- أن أرحامهم يحسدونهم، وربما يكون هذا محض ادعاء لتسويغ القطيعة.

وحديث رسول الله ﷺ: «من سرَّه أن يُبسَط له في رزقه، أو يُنسَأ له في أثرِه؛ فليصل رحِمَه»([11]) خير إبطالٍ لهذا القياس الفاسد؛ فقد أناط الشرع بصلة الرحم كلًّا من: بسط الرزق ردًّا على المنشغلين بالعمل الدنيوي عن الصلة، وكذا على مدعي حسد ذوي قرباهم لهم. وتأخير العمر ردًّا على مدعي ضياع وقته في الصلة.

خلاصة هذا المانع:

أن من موانع حصول محبَّة العلي الكبير سبحانه قطيعة الأرحام؛ بل هي في المرتبة الثانية بعد الكفر بالله تعالى، والعكس بالعكس كما سيأتي إن شاء الله.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.

بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.