ماذا عن الإعتداء على شرع الله بتحريم ما أحله؟
ويدخل في هذا تحري الأوقات والأمكنة والأحوال التي يُستحب فيها الدعاء وترتجى فيها الإجابة؛ كالدعاء في ساعة الجمعة ووقت السحر، وفي المساجد وعرفة، وإذا كان الإنسان مضطرًّا أو مظلومًا أو ساجدًا.. إلخ.
ثالثًا- الاعتداء على شرع الله بتحريم ما أحلَّ أو العكس:
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ*وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة: ٨٧، ٨٨].
قال العلامة السعدي في تفسيرها: يقول تعالى: ﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ من المطاعم والمشارب؛ فإنها نعم أنعم الله بها عليكم، فاحمدوه إذ أحلها لكم واشكروه، ولا تردُّوا نعمته بكفرها، أو عدم قبولها، أو اعتقاد تحريمها؛ فتجمعوا بذلك بين قول الكذب على الله وكفر النعمة، واعتقاد الحلال الطيب حرامًا خبيثًا؛ فإن هذا من الاعتداء([1]).
وقال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رهطٍ من أصحاب النبي ﷺ قالوا: نقطع مذاكيرَنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان. فبلغ ذلك النبيَّ ﷺ فأرسل إليهم فذكر ذلك، فقالوا: نعم؛ فقال النبي ﷺ: «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأنكح النساء؛ فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني»([2]).
وعن عائشة ڤ أن ناسًا من أصحاب رسول الله ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السرِّ، فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش؛ فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؛ لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»([3]).
وذكر العلماء في أسباب نزول هذه الآية أسبابًا كثيرة، منها: الحديث المرسل عند ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم؛ أن عبد الله بن رواحة أضافه ضيفٌ من أهله وهو عند النبي ﷺ، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفه انتظارًا له؛ فقال لامرأته: حبست ضيوفي من أجلي؟ هو (أي الطعام) حرام عليَّ.
فقالت امرأته: هو عليَّ حرام، فقال الضيف: هو عليَّ حرام. فلما رأى (أي ابن رواحة I) ذلك وضع يده وقال: كلوا باسم الله. ثم ذهب إلى النبي ﷺ فذكر الذي كان منهم، ثم أنزل الله: ﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ الآية. غير أن هذه القصة ثابتة في حق أبي بكر الصديق I من دون ذكر نزول الآية([4]).
وقال صاحب «صفوة التفاسير»: ﴿ﮛ ﮜ﴾؛ أي: ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم بتجاوز الحلال إلى الحرام.. ﴿ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ أي: يبغض المتجاوِزين الحد، والإسلام يدعو إلى القصد بدون إفراط ولا تفريط([5]).
مذاهب العلماء في تحليل وتحريم الطيبات:
قال ابن كثير: وفي «صحيح البخاري» في قصة الصدِّيق مع أضيافه شبيه بهذا([6]) -أي بقصة عبد الله بن رواحة مع ضيفه وامرأته- قال: وفيه وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء؛ كالشافعي وغيره، إلى أن من حرَّم مأكلًا أو ملبسًا أو شيئًا ما عدا النساء، أنه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضًا؛ لقوله تعالى: ﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾، ولأن الذي حرم اللحم على نفسه -كما في الحديث المتقدِّم- لم يأمره النبي ﷺ بكفَّارة.
قال: وذهب آخرون؛ منهم الإمام أحمد بن حنبل، إلى أن من حرَّم مأكلًا أو مشربًا أو شيئًا من الأشياء؛ فإنه يجب بذلك عليه كفَّارة يمين، كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه، إلزامًا له بما التزمه؛ كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التحريم: ١]، ثم قال: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [التحريم: ٢] الآية، وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم عقَّبه بالآية المبيِّنة لتكفير اليمين؛ فدل على أن هذا منـزلٌ منـزلة اليمين في اقتضاء التكفير، والله أعلم([7]).
وفي قوله تعالى: ﴿ لُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: ٩٣]، قال ابن كثير: إن إسرائيل S -وهو يعقوب- حرم أحب الأشياء إليه وتركها لله، وكان هذا سائغًا في شريعتهم؛ فله مناسبة بعد قوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: ٩٢]؛ فهذا هو المشروع عندنا، وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبه العبد ويشتهيه، كما قال تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ﴾ [البقرة: 177]، وقال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: ٨] الآية([8]).
ويستفاد من هذا الكلام أمران: الأول: أن الشرائع قد تختلف في بعض الفروع؛ كما ساغ ليعقوب S ما لا يسوغ لنا من تحريم لحوم الإبل وألبانها، وكان هذا نذرًا نذره لله، ونحن لا يجوز لنا التعبُّد -والنذر منه- بتحريم الحلال. الأمر الثاني: أنه إن كان سمح ليعقوب S التعبد بتحريم الطيب على نفسه؛ فإن البديل عندنا هو إنفاقه أو بعضه، أما أن يمنع نفسه من الحلال أبدًا فلا؛ لأن ذلك من العدوان، والله أعلم. وستأتي لهذا الحديث بقية في الإسراف والتقتير إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿ﮛ ﮜ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه:
1- ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم في تحريم المباحات عليها؛ كما قاله بعض السلف.
2- كما لا تحرمون الحلال فلا تسرفوا في تناوله؛ بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم، ولا تجاوِزوا الحد فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: ٣١]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: ٦٧]؛ فشرعُ الله عدلٌ بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط([9]).
وهذه الآية والتي في سورة البقرة تضعان المسلم في وسطيَّة الإسلام؛ حيث تنهى آية البقرة عن الاعتداء على غير المعتدين وغير الصادِّين عن سبيل الله، وتنهى هذه الآية من سورة المائدة عن التبتُّل واعتزال الناس مما قد ينسحب على التفريط في الجهاد. قال الإمام القرطبي: وفي هذه الآية وما شابهها رد على المتزهدين والمتصوفة.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).