كيف تصل إلى محبة الله
بقلم / محمد صقر
كيف تصل إلى محبة الله ..
قال العلامة بدر الدين العيني: محبة الله للعبد إيصال الخير إليه بالتَّقرُّب والإثابة([1]).
وقال الإمام النووي: محبة الله تعالى لعباده إرادة ثوابهم وتنعيمهم([2])، وقال: قال العلماء: محبة الله عبده هي رحمتُه له، ورضاه عنه، وإرادته له الخير، وأن يفعل به فعل المحب من الخير، وأصل المحبة في حق العباد ميل القلب، والله تعالى منَـزَّه عن ذلك([3])، وقال: قال العلماء([4]): محبة الله تعالى لعبده هي إرادته الخير له، وهدايته، وإنعامه عليه([5]).
وقال السيوطي: قال المازري: محبة الله لعباده إرادة ثوابهم وتنعيمهم، وقيل: محبته لهم نفس الإثابة والتنعيم([6])، وقال: قال العلماء([7]): محبة الله لعبده هي إرادته الخير له، وهدايته، وإنعامه عليه، ورحمته، وبغضه إرادته عقابه وشقاوته ونحوه([8]). ومثل هذا نقله المباركفوري عن النووي([9]).
وقال الْمُناوي: محبة الله تعالى لعبده إرادته به الخير، وهدايته، وتوفيقه له([10]).
وقد أبان صاحب «المفهِم» هذا المذهب والاختلاف في جزئياته فقال: (وقوله: «من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما») دليل على جواز إضافة المحبة لله تعالى، وإطلاقها عليه. ولا خلاف في أنَّ إطلاق ذلك عليه صحيح محبًّا ومحبوبًا، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: ٥٤].
وهو في السُّنَّة كثير، ولا يختلف النظّار من أهل السنة وغيرهم أنها مؤوَّلة في حق الله تعالى؛ لأن المحبة المتعارفة في حقنا إنما هي ميلٌ لما فيه غرض يستكمل به الإنسان ما نقصه، وسكون لما تلتذُّ به النفس وتكمل بحصوله. والله تعالى منـزّه عن ذلك.
قال: وقد اختلف أئمتنا في تأويلها في حق الله تعالى؛ فمنهم من صرفها إلى إرادته تعالى إنعامًا مخصوصًا على من أخبر أنه يحبُّه من عباده، وعلى هذا ترجع إلى صفة ذاته. ومنهم من صرفها إلى نفس الإنعام والإكرام، وعلى هذا فتكون من صفات الفعل. وعلى هذا المنهاج يتمشى القول في الرحمة والنعمة والرضا والغضب والسخط وما كان في معناها([11]).
فهذه أقوال شرَّاح الحديث، في أشهر كتبهم المتداولة، وأنت ترى الخطأ في فهمهم هذه الصفة بيِّنًا واضحًا؛ إذ إنهم أوَّلوها وصرفوها عن معناها، بحجة تنزيه الله تعالى عن مشابهة الخلق، كما هو مذهب المتكلِّمين؛ إذ ينفون الصفات عن المولى سبحانه أو يؤوِّلونها بحجة تنزيهه.
فنقول لهم: نحن أيضًا نُنَزِّه ربَّ العالمين عن مشابهة الخلق، كما ننزِّهُه سبحانه عن النقص وعن العيب؛ لكننا نثبت له من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين؛ تصديقًا لهما وإيمانًا بهما، ونرى أنه لا يلزم من ذلك أن يُشبهَ الخالق المخلوق، ولا نقصًا فيه ولا عيبًا له.. حاشا وكلا؛ فإن محبة الله تعالى عبادَه ليست كمحبة الآدميين، وكذلك بُغضُه ورحمتُه وغضبه وسائر صفاته ليست كصفات الآدميين، وذلك مثلما أن إرادتَه وكلامه وسمعه وبصره.. إلى آخر صفاته العُلَى ليست كصفاتهم.
(5) حاصل أقوال العلماء في محبة الله العباد:
مما سبق يتضح أن مفهوم العلماء للمحبة الإلهية دار حول هذه الأمور:
1- اختلفوا في أصل اشتقاق الكلمة؛ هل هو: حَبَبَ الأسنان، أم حُبَاب الماء، أم إِحْبَاب البعير، أم حَبُّ النبات، أم الحَبُّ مرادف القرط، أم الحِبُّ مرادف الإناء.
2- أن اعتقاد أهل السنة في صفة المحبة -كصفة من صفات الله تبارك وتعالى- أنها صفةٌ ثابتة لله تعالى، لا يؤوِّلونها ولا يعطلونها، ولا يشبهون الله تعالى فيها بأحد من الخلق؛ فهذا اعتقاد أهل السنة في صفة المحبة الثابتة لله تعالى.
3- أن النصوص الشرعية الواردة في محبته تعالى عبادَه؛ مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣١]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٥٤]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: ٤]، تضمنت إثباتَ أفعالٍ له تعالى ناشئةٍ عن صفة المحبة.
4- أن محبة الله D لبعض الأشخاص والأعمال والأخلاق صفةٌ له تعالى قائمةٌ به، وهي من صفات الفعل الاختيارية التي تتعلق بمشيئتِهِ؛ فهو يحب بعض الأشياء دون بعض على ما تقتضيه الحكمة البالغة([12]).
5- أن محبة الله تختلف عن محبة العبد في كون الثانية مَيْلًا قلبيًّا، في حين أن الأولى ليست كذلك؛ فلا يمكن التعبير عنها بالشغف والعشق ونحوهما مما لا يليق في حقه سبحانه جل شأنُه. وفي هذا دليل على بدعيَّة الصوفية، خاصة شعراءهم، الذين دوَّنوا الدواوين في هذه الألفاظ المزرية في حق الذات الإلهية العليَّة، وإن كان أكثرُهم قصد بها محبة العبد لله سبحانه، إلا أن هذا أيضًا لا يجوز، وكم من مريدٍ للخير لا يبلغه.
6- أن من لوازم محبة الله تعالى عبدَه ما يلي: إرادةَ الله الخير لعبده المحبوب، وإرادته تعالى إثابة عبده، وعفوه عنه، وإنعامه عليه -بالغفران وغيره- وإثابته إياه، وتقريبه له، وإكرامه، والرضا عنه، والإحسان إليه، ومحبة الطاعة منه، وإيصال الخير إليه، وتوفيقه إياه. هذا من لوازم محبة الله لعباده وليس معناها، وهذا من الفارق بين عقيدة أهل السنة والأشاعرة.
7- أن هذه المحبة هي أجلُّ نعمة ينعم الله بها على عبدٍ من العباد، وأفضل فضيلة يتفضل بها عليه؛ لاشتمالها على كل ذلك الخير السابق بيانُه.
8- أن المحبة ضدُّ البغض والكراهيةِ وما في معناهما، واللذين من لوازمهما إرادتُه تعالى عقابَ من يبغضه وشقاوته ونحو ذلك.
وكلًّا من المحبة والبغض من صفات الله تعالى التي دلَّت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، والتي نثبتُها دون تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل.
9- هذا ما اتفق العلماء عليه في شأن محبة الله العباد، لكن بعضهم اختلف حول كون المحبة صفة ذات أم صفة فعل، وقد رجَّح العلماء المحققون كونَها صفة فعل، وهو الأقرب لإجماع العلماء؛ لأنها لو كانت صفة ذات فمعناها إرادة الإكرام وغيره، والله تعالى قادرٌ أن يفعل ما يريد، فمن أحبه أكرمه فعلًا وليس أراد أن يكرمه فحسب. فمحبةُ الرحمن غيرُ إرادة الأكوان .
كما يقول ابن القيم- أو هي غير الإرادة الكونية -كما يقول ابن أبي العز الحنفي- ودلَّل ابن القيم بأنه لو كان الأمر كذلك لتساوى جبريل وإبليس فيها كما تساويا في خلق الله لهما، وهذا لا يجوز؛ فالمحبة غير المشيئة.
10- كما أن محبة الله عبدَه غيرُ محبة العبد ربه، وأسباب تحصيل هذه غير أسباب تحصيل تلك، وإن كانت بعض الأسباب تؤدي إلى كلتيهما.
اعظم حب حب الله .. بل إن كلتيهما طريقٌ إلى الأخرى؛ فمحبة العبد ربَّه تجلبُ محبته تعالى ذلك العبدَ، والعكس أقرب لصراحة النصوص فيه، في حين أن الأول من استنباط العلماء.
أن بعض المتكلمين من غير أهل السنة والجماعة؛ كالمعتزلة والأشاعرة، ينفون صفة المحبة، أو يؤوِّلونها ببعض لوازمها، بدعوى أنها تُوهِم نقصًا؛ إذ المحبة في المخلوق معناها ميلُه إلى ما يناسبه أو يستلذه.
أما المعتزلة؛ فلأنهم لا يثبتون إرادةً قائمة به لم تظهر الفرمة عندي (نريد الفرم جميعًا مكتنزة ومناسبة لخط الكتاب وحجمه)، يفسرون المحبة بأنها نفس الثواب الواجب عندهم على الله لهؤلاء؛ بناءً على مذهبهم في وجوب إثابة المطيع وعقابِ العاصي. فعطَّل المعتزلةُ صفة المحبة ونفوها عنه E، وذلك لأنهم نفوا أكثر صفات الرب جل وعلا، بدعوى تنزيهه سبحانه.
وأما الأشاعرة؛ فيرجعونها إلى صفة الإرادة، فيقولون: إن محبة الله لعبده لا معنى لها إلا إرادته إكرامَه ومثوبتَه. وكذلك يقولون في صفات الرضا والغضب والكراهية والسخط. كلها عندهم بمعنى إرادة الثواب والعقاب.
فأثبت الأشاعرةُ صفةَ الإرادة، مؤوِّلين المحبة بها، بمعنى أن المحبة -في مذهبهم- إرادة الإنعام والإحسان؛ لكنهم نفوا المحبة ضمن سائر الصفات التي نفوها عدا سبع صفات أثبتوها، مرجعين كل صفةٍ مما نفوا إلى ما يناسبها مما أثبتوا، وتعللوا في نفي صفة المحبة بأنها ميل النفس إلى المحبوب لرقَّةٍ فيها، وهذا نقص لا يكون إلا في مخلوق والخالق منـزه عنه، كما أوَّلوا الكره والغضب بإرادة الانتقام ونحوه.
وأما أهل الحق؛ فيثبتون المحبة صفة حقيقيَّة لله تعالى على ما يليق به D، فلا تقتضي عندهم نقصًا ولا تشبيهًا. كما يثبتون لازم تلك المحبة، وهي إرادته سبحانه إكرام من يحبه وإثابته([1]).
والخلاصة: أنه يجب إثبات صفة المحبة والود لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، كما يجب التفريق بين صفة المحبة وصفات كـ(الإرادة أو المشيئة والرحمة)، ويجب إثبات صفاته تعالى المضادة للمحبة؛ كـ(البغض والكره والمقت). لكنه سبحانه جل شأنه يحب كما يشاء، ومحبته ثابتة له كما يليق به سبحانه. فهذا ملخص عقيدة أهل السنة والجماعة في صفة محبة الله.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.
(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.