فضل محبة الله .. هل يوجد ضوابط شرعية لفهم المحبة الإلهية
بقلم / محمد صقر
فضل محبة الله
في حين يحاول أولياءُ الله وأحباؤه تحصيل محبَّة الله تعالى؛ فيجاهدون أنفسهم كل مجاهدة.. يُنقُّونها مما ران عليها من موانع تحول بينهم وبين محبة ربهم، ويزكونها بالأعمال والأقوال التي حددها الشرع الحنيف أسبابًا لمحبة المولى D العبادَ، ثم هم -بعد ذلك كلِّه لا قبله- يتنسمون كرامةً أو علامة توحي -ولو بالظن- أن العظيم أحبَّهم، وهم مع كل ذلك يَفْرَقون غاية الفرَق ويخافون جميع الخوف من أن لا ينالهم قسطٌ من محبة الجليل؛ فيعودون ثانية وثالثة وعاشرة يتخلون عما بقي من موانع، ويتحلون بما فاتهم من الأسباب.
ويعودون ينقِّبون في خبايا أحوالهم، عسى أن يجدوا كرامة أو علامة تقَرُّ بها الأعين القرحى، وتطمئن بها النفوس المضطربة، فإذا وجدوها باديةً للعيان خافوا أكثر وتوجَّسوا أن يكون ذلك مكرَ خيرِ الماكرين يستدرجهم من حيث لا يعلمون - في حين أن هذه حال الأولياء المحبوبين، تجد الأعداء والأدعياء يصرخون في كل وادٍ بملء الأفواه وسعة الوجوه زاعمين أن الله يحبهم.
بل الأدهى من ذلك أن طائفةً من الذين كفروا هي أحط الطوائف أخلاقًا، وأوطؤها أعمالًا، وأدنؤها أحلامًا وطموحًا، يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وهم على زعمهم هذا الكبير -تعالى الله عما يقولون- يتحلَّون بكل مانع من موانع تلك المحبة السامقة، ويتخلَّون عن كل سبب من أسبابها، ولا تبدو عليهم إلا علائم الصغار والذل والمسكنة والمهانة، التي يربأ الله بأوليائه الأعزة الأشداء على الكافرين عنها.
فيُلْزِمنا هؤلاء المبتدعةُ، من اليهود والنصارى والصوفية والباطنية، بأن نُعمل المعاول في أعناق أصنامهم التي ظلوا عليها عاكفين؛ أُسوة بالخليل إبراهيم S ومن على ملته من النبيِّين والمرسلين، عسى أن نفتح مجالًا يدخل منه بصيصٌ لقلوب المساكين المتطلعين إلى محبة رب العالمين.
أولاً- الضوابط الشرعية لفهم المحبة الإلهية:
إن الناس في شأن المحبة الإلهية -كما في كل شأنٍ- مختلفون؛ فمنهم من نال منها ومنهم من لم ينَل، وهذا من أخطر الأمور، والذين نالوا إنما نالوا بمؤهلات كابدوها وحازوها، والذين عدموها إنما عدموها لإغراضهم أو تكاسلهم أو جهلهم الطريق الموصِّلة إلى محبة الله.
ومن ثم يجب علينا أن نعرف أساليب المغرضين من الأحبار والرهبان، وأئمة وشيوخ التصوف، وعموم أئمة الضلال، وفي المقابل سرد المحفِّزات وتبيين الطريق الواصلة إلى الكبير ومحبته D العبادَ.. فمن هذه المحفزات ومن مراحل تلك الطريق.
1- الإيمانُ بالوحي المنَزَّل والاعتصام به: إذ يقول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴿١٧٤﴾ ،( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ (175) [النساء: ١٧٤-١٧٥].
فالناس في مجموعهم منـزَّل إليهم هذا البرهان وذانك النور المبين، فآمن واعتصم به بعضهم، وكفر به أو ببعضه آخرون؛ فاختر لنفسك مع أيِّ الفريقين تكون.. هل تأخذ عن الله عبر رسل كرام صادقين؟ أم عن أشتات من الناس منهم آكل السحت، ودنيء النفس، وشاذُّ الخلق..
إلى آخر الخطايا والأخطاء؟ ثم اعلم أن لكلٍّ عاقبةً مختلفةً كما اختلف الناس في بادئ الأمر؛ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: ١٧٥]، وهل هؤلاء إلا أحباء ربهم؟! وهل هذه الرحمة وذلك الفضل وتلك الهداية إلا لوازم محبة الله إياهم، أو نتائجها؟!
إن البرهان هو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة، والنور المبين هو الضياء الواضح، والمقصود به هنا القرآن العظيم([1])؛ فهل من يريد أن يحبه الله على يقين تامٍّ من أن ما أنزل الله من الوحي أول معالم ومراحل الطريق المؤدية إلى محبَّة الله؟ إنه إن لم يكن كذلك فلن يصل أبدًا إلى هذا الكنـز الغالي، ولن يترع من هذا المعين.
2- اتباع النبي ﷺ والتأسي به: فقد قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣١]، وقال: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: ٢١].
فإن النبي ﷺ هو صاحب الوحي الذي هو المرحلة الأولى والطبيعية من مراحل الطريق إلى الله وإلى محبته عبدَه، ثم إنه ﷺ أول العاملين بما أُنزِل إليه؛ فلقد أمره ربه أن يقول لنا: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: ١٢].
كما أنه ﷺ أكثر من تمثَّل الوحي كما ينبغي، حتى قالت زوجه الصديقة ڤ: «كان خلقه القرآن»([2])، وقال فيه ربه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤]، كذلك فإن النبي ﷺ هو أول المحبوبين لربه، ومُتَمثِّلُ حياته ﷺ وسيرته وصفاته يقطع الأشواط سريعة وسهلة؛ إذ لابد لمن سلك طريق النبي ﷺ أن يحبه الله.. تظاهر على ذلك النقلُ والعقل جميعًا، ولم يعد هناك مجال للشك والرَّيْب.
3- الالتزام بالضوابط العلمية الثابتة في فهم الوحي والأخذِ عن رسول الله ﷺ: وذلك لأن من تنكبوا طريق المحبة الربانية ليسوا فقط من أنكروا الشرع وأعرضوا عن رسل الله، وإنما أكثرهم لم يلتزموا الطريق الصائبة في فهم الشرع والأخذ عن الرسل الكرام؛ فبعضهم حرَّف الكتب كاليهود والنصارى، وبعضهم أنكر السنة المبيِّنة كتابَ الله؛ كالروافض والمعتزلة والقرآنيين؛ ليفتئتوا مذاهبَهم الضالة، وآخرون لم يعقلوا عن الله بالوسائل التي وضعها لتحصيل الفهم عنه سبحانه، فأبعدوا وأغربوا في التأويل؛ كالباطنية والمتصوِّفة.
ومن ثم تصبح الأدوات العلمية التي وضعها العلماء الربانيون من قواعد اللغة والأصول وعلوم الحديث والرجال والتفسير وغيرها؛ مقيداتٍ لنا، لا يجوز تجاوزها إلى غيرها كيلا نضل فلا نصل.
فحتمًا على من أراد محبةَ الله أن يعلم محدداتها من الشرع الحنيف لا من غيره؛ كالمعاني والموانع والأسباب والعلائم، ثم أن يتأسى بالنبي ﷺ في كل ما أخذ وما ترك، ثم أن يفهم بالأساليب المجدية الموثوقة لا بالأساليب الملتوية المجادلة في الله وفي كتابه بغير علم.. نسألُ اللهَ الهدايةَ لنا ولجميع المسلمين.
ثانيًا- دعوى اليهود والنصارى محبة الله إياهم:
تعتبر اليهودية والنصرانية المحرفتان بدعتين في الدين الحق (الإسلام) الذي جاء به المرسلون جميعًا، ومنهم موسى وعيسى -عليهما السلام- وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ٨٥] عامٌّ في الأولين والآخرين بأن دين الإسلام هو دين الله الذي جاء به أنبياؤه وعليه عباده المؤمنون، كما ذكر الله ذلك في كتابه، من أول رسول بعثه إلى أهل الأرض، وهو نوح ، وكذلك إبراهيم وإسرائيل ويوسف والأسباط وموسى
([2]) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها/ باب جامع صلاة الليل (ح746) مطولًا، من طريق سعد بن هشام بن عامر عن عائشة J، وفيه: «قال سعد بن هشام: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ﷺ. قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى؛ قالت: فإن خلق نبي الله ﷺ كان القرآن».
وزاد السيوطي في «الدر المنثور» (ج8 ص243) عزوه إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم وابن المنذر والحاكم وابن مردويه وسليمان وعيسى وسائر الأنبياء والرسل -عليهم السلام- وكذلك المؤمنون كآل لوطٍ والسحرة وبلقيس وأمة عيسى ([1]).
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).