عقاب الله لمن اختال في نفسه
بقلم / محمد صقر
عقاب الله لمن اختال في نفسه
قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: ٢٢-٢٤].
مختال في نفسه متكبر، فخور؛ أي على غيره([1]). وقال الشوكاني: أي: لا يحب من اتصف بهاتين الصفتين، وهما الاختيال والافتخار.. قيل: هو ذم للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وقيل: إن من فرِح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه؛ اختال وافتخر بها، وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار، والأَوْلى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي؛ فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله([2]).
تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والاختيال، والمختال: المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسِهِ، والفخور: المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء؛ كالمال والجاه([3]).
وقد أحسن الشوكاني وعلماء الإسلام قولًا؛ فقد فسَّر الله تعالى هذا تفسيرًا وفصَّله تفصيلًا؛ فذكر في سورتي النساء ولقمان عشر خصال للمختال الفخور كلها من الكبائر حتى تصل إلى الكفر بالله وباليوم الآخر، ثم ذكر سبحانه هاهنا صفتين أخريين هما: القنوط لما فات، والفرح بما هو آت.
وقد فسر ذلك عكرمة T كما نقل ابن كثير فقال: ليس أحدٌ إلا هو يفرح ويحزن؛ ولكن اجعلوا الفرح شكرًا والحزن صبْرًا ([4]).
وهو يعني بذلك ألا أحد في طاقته ألا يحزن ويفرح؛ لكن المحرَّم هو وصول الحزن إلى درجة القنوط، وعلاج هذه الحال الصبر.. قال ﷺ: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»([5])، وقال: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»([6])، كذلك أن يصل الفرح إلى درجة البطر، وعلاج هذه الحال الشكر.. قال ﷺ: «من أعطاه الله خيرًا فيرى عليه فليشكر، وابدأ بمن تعول، وارتضِخ من الفضل، ولا تلام على كفاف، ولا تعجز عن نفسك»([7]).
وبذا تتم صفات المختال الفخور الذي لا يحبه الله اثنتي عشرة صفة، كل واحدة منها تمنع من محبته تعالى عبده المتصف بها، وهي:
1- الكفر بالله تعالى.
2- الكفر باليوم الآخر.
3- البخل.
4- حث الناس على البخل([8]).
5- كتمان النعم وإخفاؤها.
6- كفر النعمة.
7- الرياء.
8- الأنس بالشياطين
9- تصعير الخد للناس كبْرًا وعجبًا في ذات النفس واحتقارًا للناس.
10- المشي في الأرض مرحًا؛ أي: تبختُرًا وعُجْبًا.
11- القنوط من رحمة الله.
12- البطر بأنعم الله.
رابعًا: الخيلاء والفخر في البغي:
عن جابر بن عتيك وعقبة بن عامر الجهني L؛ أن نبي الله ﷺ كان يقول: «وإن من الخيلاء ما يبغض الله ومنها ما يحب الله؛ فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي -قال موسى: والفخر-»([9]).
قال العظيم آبادي: «فاختياله في البغي»؛ نحو أن يذكر الرجل أنه قتل فلانًا وأخذ ماله ظلمًا، أو يصدر منه الاختيال حال البغي على مال الرجل أو نفسه. «قال موسى» هو ابن إسماعيل: «والفخر» -بالجرِّ- أي: قال موسى -في روايته-: في البغي والفخر. ولم يذكر مسلم بن إبراهيم في روايته لفظ: والفخر. واختيال الرجل في الفخر نحو أن يذكر ما له من الحسب والنسب وكثرة المال والجاه والشجاعة والكرم؛ لمجرد الافتخار، ثم يحصل منه الاختيال عند ذلك؛ فإن هذا الاختيال مما يبغضه الله تعالى([10]).
وفي قوله: «والفخر» جمع بين البغي والفخر؛ ففي بعض الروايات: «في البغي، أو قال: في الفخر»([11])، ويؤخذ من التي بالواو: أن الاختيال يكون في الفخر كما يكون في البغي، وأن كليهما يبغضه الله سبحانه، ويؤخذ من التي بأو: أن الاختيال الذي يبغضه الله سبحانه إما أن يكون في البغي، أو يكون في الفخر؛ فينبغي على من رام محبة الله تعالى الاحتراز من الاختيال في البغي وفي الفخر.
خامسًا: تخصيص اختيال الفقير، وبخل الغني، ومَنُّه، وظلمه:
قال النبي ﷺ: «أربعة يبغضهم الله D»، وذكر منهم «الفقير المختال»([12]). وقال: «إن الله D يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة»، وذكر «الفقير المختال، والْمُكْثِر البخيل»([13]). وفي حديث الثلاثة الذين يحبهم الله تعالى والثلاثة الذين يبغضهم، قال: «والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني،
والفقير المختال، والغني الظلوم»([1]). وفي حديث مطرف عن أبي ذر I: «البخيل المنان»([2])، وكذا أحاديث أخرى صحيحة تظاهرت على أن الله تعالى لا يحب عبده الفقيرَ المختال، ولا عبدَه الغني البخيل، أو المنَّان، أو الظالم.
والمفهوم المخالف لهذه الأحاديث؛ من أنها تعني أن الغنِيَّ المختال أو الفقير البخيل أو الفقير المنان أو الفقير الظالم لا يبغضهم الله تعالى، هذا المفهوم غير صحيح؛ أي -بمعنًى آخر- لا يفهم من هذه الأحاديث أن المختال لا يحبه الله إلا إذا كان فقيرًا، وأن البخيل والمنان والظالم لا يبغضهم الله إلا إذا كانوا أغنياء؛ بل يبغضهم إذا كانوا فقراء ويبغض المختال لو كان غنيًّا.
فلا يقال: إن هذه الأحاديث مخصصةٌ لعموميات الآيات التي أوردناها سلفًا؛ لتظاهر هذه الآيات على عمومها، ولأنها اشتملت على تفاصيل كثيرة ولم تشتمل على هذا التخصيص؛ لكن هذه الأحاديث تعني -والله ورسوله أعلم- أن بغضه تعالى للمختال الفقير أشد من بغضه للمختال الغنِيِّ، وبغضه تعالى للبخيل والمنان والظلوم إذا كانوا أغنياء أشد منهم إذا كانوا فقراء.
وإنما كان ذلك كذلك لعدم حيازة الفقير ما يختال ويفتخر به؛ مما يعني أن الاختيال والفخر صفتان متأصلتان في نفسه متمكنتان منها أيّما تمكُّنٍ.
فإذا علم أن الاختيال والفخر من أرذل الصفات، بل قد تكونان محور جميع الصفات التي لا يحبها الله في عباده، بل منبع هذه الصفات؛ فإن معنى هذا أن أقبح الصفات متمكنةٌ من نفسه، وأن نفسه معين للقبائح تنِزُّ بها على كل حال. ومعلوم أن الفقير إذا كان مختالًا فخورًا على فقره؛ فإنه إذا اغتنى لا يطاق، أعاذنا الله وإيَّاك من هذه الحال.
أما الغنيُّ فإنه -والعياذ بالله- مبغوضٌ له تعالى إذا كان مختالًا فخورًا؛ لكنه إن كان مع ذلك بخيلًا أو منَّانًا أو ظلومًا كان أشدَّ بغضًا؛ لأنه بذلك يجمع بين القبائح؛ فلم يكفِه أنه بخيل على غناه، أو منَّان في نفقته، أو ظالم للعباد بمنع حقهم في ماله أو بأخذ حقوقهم -ابتداءً-؛ لم يكفِه كل هذا فراح يختال على عباد الله ويفتخر عليهم ظنًّا منه أنه أفضل منهم، مع أنهم قد يكونون أفضل منه.
كما أنه قد يكون الغنيُّ غير مختال ولا فخور، بل كاتمًا للنعم خشيةَ الحسد أو خشيةَ المسألة والإنفاق، ومع ذلك يبغضُه الله تعالى لبخله لا لاختياله وفخرِهِ؛ كما تظاهرت على ذلك الأحاديث الصحيحة. وأيضًا قد يبغض الله الغني المنفق وذلك إذا كان منَّانًا؛ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٦٤]، فقد جعله الله غير مؤمن به ولا باليوم الآخر.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.
(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.
(13) «الأربعين النووية» لأبي زكريا محيي الدين النووي (المتوفى 676هـ) تحقيق: قصي محمد نورس الحلاق وأنور بن أبي بكر الشيخي ط1 دار المنهاج للنشر والتوزيع (ط. ت).