صيام داود  .. السبب السابع عشر للحصول على محبة الله عبده

السبب السابع عشر لتحصيل محبَّةِ اللهِ عبْدَه

صيام داود

لقول النبي ﷺ: «أحبُّ الصيام إلى الله صيام داود؛ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا» الحديث([1]).

ويعد الصوم فريضة شرعيَّةً في كل دين سماوي؛ بل هو شعار المسلمين في كل زمن، ومن أفضل أبواب النوافل، ومن أجمع العبادات؛ بل هو فريضة ونافلة وكفارة ونذر، وهو إيمان وإسلام وخلق. ومع ذلك -فشأن تلك الشريعة الغراء كلِّها- يرعى الصيام الحقوقَ التي لله تعالى والتي للنفس، وتلك التي للأهل والأضياف والداعين للطعام وغيرهم.. قال عَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ L: قَالَ لِي رَسُولُ الله ﷺ: «يَا عَبْدَ الله! أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟.

فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله! قَالَ: «فَلَا تَفْعَلْ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ».

فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً؛ قَالَ: «فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ الله دَاوُدَوَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ»، قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ الله دَاوُدَ S؟ قَالَ: «نِصْفَ الدَّهْرِ»؛ فَكَانَ عَبْدُ الله يَقُولُ -بَعْدَمَا كَبِرَ-: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ ﷺ([2])!!

وفي قصة الحديث عند البخاري قال عبد الله I: «أخبر رسول الله ﷺ أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت»([3]).. وله أيضًا: «ذكر([4]) للنبي ﷺ صومي، فدخل علي، فألقيت له وسادة»، وله أيضًا: «بلغ النبي ﷺ أني أسرد الصوم وأصلي الليل؛ فإما أرسل لي وإما لقيته»، ويجمع بينهما بأن يكون عمرو توجه بابنه إلى النبي ﷺ فكلمه من غير أن يستوعب ما يريد من ذلك، ثم أتاه إلى بيته زيادة في التأكيد. قوله‏: «‏فلا تفعل»‏، زاد البخاري: «فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين»([5]).

قوله: «‏وإن لزَوْرك‏» -بفتح الزاي وسكون الواو-: لضيفك، والزور مصدر وضع موضع الاسم؛ كصوم في موضع صائم، ونوم في موضع نائم، ويقال للواحد والجمع والذكر والأنثى: زور، قال ابن التين‏:‏ ويحتمل أن يكون زور جمع زائر؛ كركب جمع راكب، وتجر جمع تاجر. زاد مسلم: «وإن لولدك عليك حقًّا»([6])، وزاد النسائي: «وإنه عسى أن يطول بك عمر»([7])، وفيه إشارة إلى ما وقع لعبد الله بن عمرو بعد ذلك من الكبر والضعف.

أمر ﷺ بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ثم بستة، ثم بتسعة، ثم باثني عشر، ثم بخمسة عشر؛ فالظاهر أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كل شهر، فلما قال: إنه يطيق أكثر من ذلك؛ زاده بالتدريج إلى أن وصله إلى خمسة عشر يومًا.

وقد استشكل قوله: «صم من كل عشرة أيام يومًا ولك أجر ما بقي» مع قوله: «صم كل عشرة أيام يومين ولك أجر ما بقي» إلخ؛ لأنه يقتضي الزيادة في العمل والنقص من الأجر.. وأجيب بأن المراد: لك أجر ما بقي بالنسبة إلى التضعيف.

قال عياض‏:‏ قال بعضهم: معنى «صم يومًا ولك أجر ما بقي»؛ أي من العشرة، وقوله: «‏صم يومين ولك أجر ما بقي»؛ أي: من العشرين، وفي الثلاثة ما بقي من الشهر، وحمله على ذلك استبعاد كثرة العمل وقلة الأجر، وتعقبه عياض بأن الأجر إنما اتحد في كل ذلك؛ لأنه كان نيته أن يصوم جميع الشهر، فلما منعه ﷺ من ذلك إبقاءً عليه لما ذكر في أجر نيته على حاله، سواء صام منه قليلًا أو كثيرًا؛ كما تأوله في حديث: «نية المؤمن خير من عمله»([8])، أي: إن أجره في نيته أكثر من أجر عمله؛ لامتداد نيته بما لا يقدر على عمله‏.

قال الحافظ: والتأويل المذكور لا بأس به، ويحتمل أيضًا إجراء الحديث على ظاهره، والسبب فيه أنه كلما ازداد من الصوم ازداد من المشقة الحاصلة بسببه المقتضية لتفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوتها مشقة الصوم؛ فينقص الأجر باعتبار ذلك، على أن قوله في نفس الخبر: «صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي»‏ يرد الحمل الأول.

فإنه يلزم منه -لا على سياق التأويل المذكور- أن يكون التقدير‏:‏ ولك أجر أربعين. وقد قيده في نفس الحديث بالشهر، والشهر لا يكون أربعين، وكذلك قوله في رواية أخرى للنسائي: «صم من كل عشرة أيام يومًا ولك أجر تلك التسعة»، ثم قال فيه: «من كل تسعة أيام يومًا ولك أجر تلك الثمانية»، ثم قال: «من كل ثمانية أيام يومًا ولك أجر السبعة»، قال: فلم يزل حتى قال: «صم يومًا وأفطر يومًا»([9])؛ فهذا يدفع في صدر ذلك التأويل الأول، والله أعلم. قوله: «‏ولا تزد عليه»؛‏ أي على صوم داود.

قوله: «‏وكان عبد الله بن عمرو يقول بعدما كبر‏:‏ يا ليتني قبلت رخصة رسول الله ﷺ»،‏ قال النووي‏:‏ معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله ﷺ؛ فشق عليه فعله لعجزه، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له؛ فتمنى أن لو قبل الرخصة فأخذ بالأخف، قلت‏:‏ ومع عجزه وتمنيه الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف.

قوله: «‏باب صوم الدهر»؛‏ أي: هل يشرع أو لا‏؟‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لم ينص على الحكم لتعارض الأدلة واحتمال أن يكون عبد الله بن عمرو خص بالمنع لما اطلع النبي ﷺ عليه من مستقبل حاله، فيلتحق به من في معناه ممن يتضرر بسرد الصوم، ويبقى غيره على حكم الجواز لعموم الترغيب في مطلق الصوم؛ كما في حديث أبي سعيد مرفوعًا: «من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار».

وللبخاري: «فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ»، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ»، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا؛ فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَوَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ»، فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ»([10]).. قال الحافظ T: قوله: «فإنك لا تستطيع ذلك‏»‏ يحتمل أن يريد به الحالة الراهنة؛ لما علمه النبي ﷺ من أنه يتكلف ذلك، ويدخل به على نفسه المشقة، ويفوت به ما هو أهم من ذلك، ويحتمل أن يريد به ما سيأتي بعد إذا كبر وعجز، كما اتفق له سواء، وكره أن يوظف على نفسه شيئًا من العبادة ثم يعجز عنه فيتركه؛ لما تقرر من ذم من فعل ذلك‏.

قوله: «وصم من الشهر ثلاثة أيام»‏ بعد قوله: «فصم وأفطر»‏؛ بيانٌ لما أجمل من ذلك، وتقرير له على ظاهره؛ إذ الإطلاق يقتضي المساواة.

قوله: «مثل صيام الدهر» يقتضي أن المثلية لا تستلزم التساوي من كل جهة؛ لأن المراد به هنا أصل التضعيف دون التضعيف الحاصل من الفعل، ولكن يصدق على فاعل ذلك أنه صام الدهر مجازًا.

قوله -بعد ذكر صيام داود-: «‏لا أفضل من ذلك»‏ ليس فيه نفي المساواة صريحًا، لكن قوله -في الرواية الماضية-: «أحب الصيام إلى الله صيام داود»‏ يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقًا، ورواه الترمذي: «أفضل الصيام صيام داود»‏، وكذلك رواه مسلم، ومقتضاه أن تكون الزيادة على ذلك من الصوم مفضلة.

ترجم البخاري: «‏باب حق الأهل في الصوم»، وروى فيها حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء وقول سلمان لأبي الدرداء L: «وإن لأهلك عليك حقًّا»، وأقره النبي ﷺ على ذلك([1]).

وفي رواية للبخاري: «وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى»، قَالَ: مَنْ لِي بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ الله؟ قَالَ عَطَاءٌ: لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ» مَرَّتَيْنِ([2]).. قال الحافظ T: قوله: «ولا يفر إذا لاقى»، زاد النسائي: «وإذا وعد لم يخلف»، ولها مناسبة بالمقام وإشارة إلى أن سبب النهي خشية أن يعجز عن الذي يلزمه؛ فيكون كمن وعد فأخلف.

كما أن في قوله: «ولا يفر إذا لاقى»‏ إشارة إلى حكمة صوم يوم وإفطار يوم، قال الخطابي‏:‏ محصل قصة عبد الله بن عمرو؛ أن الله تعالى لم يتعبد عبده بالصوم خاصة، بل تعبده بأنواع من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصر في غيره؛ فالأولى الاقتصاد فيه ليستبقي بعض القوة لغيره، وقد أشير إلى ذلك بقوله -عليه الصلاة والسلام- في داود S: «وكان لا يفر إذا لاقى؛ لأنه كان يتقوى بالفطر لأجل الجهاد».

قوله: «لا أدري كيف ذكر صيام الأبد».. إلخ؛‏ أي أن عطاءً لم يحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصة، إلا أنه حفظ أن فيها أنه ﷺ قال: «لا صام من صام الأبد»،‏ وقد روى أحمد والنسائي هذه الجملة وحدها من طريق عطاء.

قوله: «لا صام من صام الأبد» مرتين‏ في رواية مسلم: قال عطاء:‏ فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد، فقال النبي ﷺ‏:‏ «لا صام من صام الأبد.. لا صام من صام الأبد»،‏ واستدل بهذا على كراهية صوم الدهر، قال ابن التين: استدل على كراهته من هذه القصة من أوجه‏:‏ نهيه ﷺ عن الزيادة، وأمره بأن يصوم ويفطر، وقوله: «لا أفضل من ذلك»‏، ودعاؤه على من صام الأبد.

وقيل: معنى قوله: «لا صام»‏ النفي؛ أي: ما صام؛ كقوله تعالى: «‏فلا صدق ولا صلى»‏، وقوله في حديث أبي قتادة عند مسلم وقد سئل عن صوم الدهر: «لا صام ولا أفطر»،‏ أو «ما صام وما أفطر»،‏ وفي رواية الترمذي: «لم يصم ولم يفطر»،‏ وهو شك من أحد رواته، ومقتضاه أنهما بمعنًى واحد، والمعنى بالنفي أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته، ولم يفطر لأنه أمسك‏. وإلى كراهة صوم الدهر مطلقًا ذهب إسحاق وأهل الظاهر.

وهي رواية عن أحمد، وشذ ابن حزم فقال: يحرم. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمرو الشيباني، قال: بلغ عمر أن رجلًا يصوم الدهر؛ فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول‏:‏ كل يا دهري. ومن طريق أبي إسحاق؛ أن عبد الرحمن بن أبي نعيم كان يصوم الدهر، فقال عمرو بن ميمون‏:‏ لو رأى هذا أصحاب محمد لرجموه.

واحتجوا أيضًا بحديث أبي موسى، رفعه: «من صام الدهر ضيقت عليه جهنم»، وعقد بيده([3])، وظاهره أنها تضيق عليه حصرًا له فيها؛ لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيه ﷺ، واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حرامًا.

وإلى الكراهة مطلقًا ذهب ابن العربي من المالكية؛ فقال‏:‏ قوله: «لا صام من صام الأبد» إن كان معناه الدعاء؛ فيا ويح من أصابه دعاء النبي ﷺ! وإن كان معناه الخير فيا ويح من أخبر عنه النبي ﷺ أنه لم يصم! وإذا لم يصم شرعًا لم يكتب له الثواب؛ لوجوب صدق قوله ﷺ؛ لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل كما تقدم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي ﷺ؟! وذهب آخرون إلى جواز صيام الدهر، وحملوا أخبار النهي على من صامه حقيقة.

فإنه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين، وهذا اختيار ابن المنذر وطائفة، وروي عن عائشة نحوه، وفيه نظر؛ لأنه ﷺ قد قال جوابًا لمن سأله عن صوم الدهر: «لا صام ولا أفطر»،‏ وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا أثم، ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك؛ لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحبًّا وحرامًا، وأيضًا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعًا؛ فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض، فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله: «لا صام ولا أفطر» لمن لم يعلم تحريمها‏.

وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوي عليه، ولم يفوت فيه حقًّا، وإلى ذلك ذهب الجمهور، قال السبكي‏:‏ أطلق أصحابنا كراهة صوم الدهر لمن فوت حقًّا، ولم يوضحوا هل المراد الحق الواجب أو المندوب، ويتجه أن يقال: إن علم أنه يفوت حقًّا واجبًا حرم.

وإن علم أنه يفوت حقًّا مندوبًا أولى من الصيام كره، وإن كان يقوم مقامه فلا، وإلى ذلك أشار ابن خزيمة؛ فترجم «ذكر العلة التي بها زجر النبي ﷺ عن صوم الدهر»، وساق الحديث الذي فيه: «إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك»،‏ ومن حجتهم حديث حمزة بن عمرو، الذي مضى.

فإن في بعض طرقه عند مسلم: «أنه قال: يا رسول الله! إني أسرد الصوم»؛‏ فحملوا قوله ﷺ لعبد الله بن عمرو: «لا أفضل من ذلك»؛‏ أي في حقك؛ فيلتحق به من في معناه ممن يدخل فيه على نفسه مشقة أو يفوت حقًّا، ولذلك لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد.

فلو كان السرد ممتنعًا لبيَّنه له؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. قاله النووي، وتعقب بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر، ولا يلزم من سرد الصيام صوم الدهر؛ فقد قال أسامة بن زيد: «إن النبي ﷺ كان يسرد الصوم، فيقال: لا يفطر»([4])، ومن المعلوم أن النبي ﷺ لم يكن يصوم الدهر؛ فلا يلزم من ذكر السرد صيام الدهر.

والأولى إجراء الحديث على ظاهره، وحمله على من فوت حقًّا واجبًا بذلك؛ فإنه يتوجه إليه الوعيد.. وذهب جماعة منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل، وهو ظاهر الحديث بل صريحه، ويترجح من حيث المعنى أيضًا بأن صيام الدهر قد يفوت بعض الحقوق كما تقدم، وبأن من اعتاده فإنه لا يكاد يشق عليه، بل تضعف شهوته عن الأكل.

وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهارًا، ويألف تناوله في الليل؛ بحيث يتجدد له طبع زائد، بخلاف من يصوم يومًا ويفطر يومًا؛ فإنه ينتقل من فطر إلى صوم ومن صوم إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام، ويأمن مع ذلك غالبًا من تفويت الحقوق كما تقدمت الإشارة إليه فيما تقدم قريبًا في حق داود S.

«ولا يفر إذا لاقى»؛ لأن من أسباب الفرار ضعف الجسد، ولا شك أن سرد الصوم ينهكه، وعلى ذلك يحمل قول ابن مسعود فيما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه؛ أنه قيل له: إنك لتقل الصيام؛ فقال‏:‏ إني أخاف أن يضعفني عن القراءة، والقراءة أحب إلي من الصيام.

نعم، إن فرض أن شخصًا لا يفوته شيء من الأعمال الصالحة بالصيام أصلًا، ولا يفوت حقًّا من الحقوق التي خوطب بها؛ لم يبعد أن يكون في حقه أرجح، وإلى ذلك أشار ابن خزيمة فترجم:‏ «الدليل على أن صيام داود إنما كان أعدل الصيام وأحبه إلى الله؛ لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائره أيام فطره بخلاف من يتابع الصوم»،‏ وهذا يشعر بأن من لا يتضرر في نفسه ولا يفوت حقًّا أن يكون أرجح، وعلى هذا فيختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال‏.

فمن يقتضي حاله الإكثار من الصوم أكثر منه، ومن يقتضي حاله الإكثار من الإفطار أكثر منه، ومن يقتضي حاله المزج فعله، حتى إن الشخص الواحد قد تختلف عليه الأحوال في ذلك، وإلى ذلك أشار الغزالي أخيرًا([5]).

خلاصة هذا السبب:

أن أحب صيام التطوع إلى الله تعالى -أي الذي بعد صيام رمضان؛ لأنه الفريضة وهي أحب إلى الله تعالى- هو صيام داود ، وهو صيام يومٍ وفطر يوم لمن داوم عليه، ولو داوم على أقل من ذلك كان أحبَّ إلى الله تعالى من أن يفعله بلا مداومة، والله أعلم.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).


(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).


(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).


(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.


بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.