تعرف على صفات المحسنين والدلالة عليهم

صفات المحسنين والدلالة عليهم

وفي الآية الآتية قال القرطبي: ﴿ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾ يعني الصغائر ﴿ﯯ﴾ يعني الكبائر. والإسراف: الإفراطُ في الشيء ومجاوزةُ الحدِّ([1]).

وقد سبق -في الباب الثاني- أن الإسراف مانعٌ من حصولِ محبة الله للعبد، فالمحسنون هنا يستغفرون منه.

استأنف القرطبي: وفي «صحيح مسلم» عن أبي موسى الأشعري، عن النبي ﷺ أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني»([2])، وذكر الحديث.

فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدَع ما سواه، ولا يقولُ: أختار له؛ فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلَّمهم كيف يدعون.

وهذه الفقرة الأخيرة من كلام القرطبي يصح أن تنسحب على أول الآية: ﴿ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾، وبذا يكون الإحسانُ يعني متابعة الرسول ﷺ، وهو معنى ربيُّون على قول الخليل.

وقال السعدي: ثم إنهم لم يتَّكِلوا على ما بذلوا جهدَهم به من الصبْر، بل اعتمدوا على الله، وسألوه أن يثبِّت أقدامهم عند مُلاقاةِ الأعداء الكافرين، وأن ينصرَهم عليهِم؛ فجمعوا بين الصبر وترك هذه، والتوبة والاستغفار والاستنصار بربِّهم، لا جرَم أن الله نصرَهم وجعل لهم العاقبةَ في الدنيا والآخرة([3]).

وقد جمع اللهُ تعالى من صفات المحسنين والدلالة عليهم في هذه الآيات الثلاث ما يلي:

1- اتباعهم النبيِّين، والقتالُ صفًّا؛ أي: في جماعة. وسبق أن ذكرنا الاتباع المذكور في آل عمران (آية 31)، وسيأتي إن شاء الله ذكر المقاتلة صفًّا في سورة الصف (الآية 4). وهذا اتباعٌ في العمل والجهاد، وهناك اتباعٌ في القول كما سيأتي.

2- عدم الضعف والانهيار أمام الجِرَاح، ومن أصرحه ما حصل لرسول الله ﷺ ولصحابته M يوم أُحُد.

3- عدم الذِّلَّة والانكسار. وسيأتي في آية المائدة (54) بمشيئة الله.

4- الصبر، وسنعود إليه إن شاء الله ولهذه الآيات نفسها في سبب الصبر.

5- الاستغفار من الصغائر والكبائر، والاستغفار يكون من العصيان ومن غير عصيان.. قال تعالى للنبي ﷺ وهو معصوم: ﴿ﮐ ﮑ﴾ [غافر: 55، ومحمد: 19].

6- سؤال الله تعالى الثباتَ والنُّصرة، وهو الدعاء، وهو أهم أسباب النصر. وإذن فكل هذه تسمى إحسانًا.

رابعًا: العفوُ والصفْح:

 ﴿ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾ [المائدة: ١٣]. والإحسانُ في هذه الآية هو بمعناه اللغوي الذي هو العفْوُ والصفح عن الخائنين من اليهود؛ الذين نقضوا عهدهم مع الرسول ﷺ يوم الأحزاب، وهمُّوا بقتلِه، وسبُّوه، ولم يؤمنوا به، وألّبوا الناس عليه، وحرَّفوا كلام الله في التوراة، وضلَّلُوا الناس؛ فأُمِر رسول الله ﷺ بالعفو والصفح عنهم، كما قال في سورة البقرة: ﴿ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾ [البقرة: ١٠٩].

ولكن قيل: هذا الحكم منسوخٌ بآية السيف، وقيل: بقوله تعالى: ﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ﴾ [الأنفال: ٥٨]، وقيل: فاعفُ عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهدٌ وهم أهل الذمة.

وقد بيَّنا -فيما سبق- أن هذا ليس على إطلاقه، وأن آياتِ الصفح وآيات السيف يُعمَل بكلٍّ منها في ظروفِهِ التي هي أنسبُ له؛ فإن حصَل أن كان إمامٌ مسلِمٌ في حربٍ مع أهل الذمَّة، ثم عقدوا صُلْحًا، فيَجوز للإمام أن يأخذ بأحد الحكمين والله أعلم، على أنِّي أختار الإحسانَ إليهم والله الهادي إلى الصراط المستقيم؛ فإن بدرت منهم الخيانة فليس لهم عندي إلا حكم سعدٍ في بني قريظة، والله المستعان، وبما أن اليهودَ لابد أن تبدر منهم الخيانة؛ فسيؤول أمرُهم إلى حُكم سعد I، ولن يُخرِجونا من إحسانِنا.

خامسًا: التقوى والإيمان والعملُ الصالح:

قال تعالى: ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾ [المائدة: ٩٣].

قال ابن عباس L: لما نزَل تحريمُ الخمرِ قال قومٌ: كيف بمن مات منَّا وهو يشربها ويأكل الميْسِر؟ فنـزلت([4])؛ فأخبر تعالى أن الإثم والذمَّ إنما يتعلق بفعل المعاصِي، والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾؛ أي: ليس عليهم جناحٌ فيما تناوَلُوه من المأكول والمشروب إذا اتقَوْا المحرَّم وثبَتُوا على الإيمان والأعمال الصالحة، ﴿ﮕ ﮖ ﮗ﴾ أي: اتَّقَوا المحرَّم وآمنوا بتحريمِه، بمعنى: اجتنبوا ما حرَّمَه الله، ﴿ﮜ ﮝ ﮞ﴾؛ أي: يحبُّ المتقرِّبين إليه بالأعمال الصالحة. قال في «التَّسْهِيل»: كرَّرَ التقوى مبالغةً، وقيل: الرُّتْبة الأولى: اتِّقَاء الشرك، والثانية: اتقاء المعاصي، والثالثة: اتقاء ما لا بأسَ به حذرًا مما به بأس([5]).

والإحسان في هذه الآية هو الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وهي كلُّها تعني -والله أعلم- التزام الشرع؛ فما كان حرامًا حرَّموه، وما لم يكن حرامًا في زمنهم وأتوه فليس عليهم جُناحٌ فيه، فهذه الآية تدفع توهُّم الإحسان فيمن ماتوا قبل إتمام النعمة واكتمال الدين في زمنهم؛ كعثمانَ بن مظعون وغيره M، وإنَّما تؤكد إحسانَ من التزم شرع الله ولو كان قليلًا، وفي المقابل تحمِل على من فرَّط في بعض الوحْيِ بعد أن كثُرت الشرائع، والله أعلم.

كذلك، فإنَّ مما نستفيدُه نحنُ من هذه الآية هو الاستمرار على التقوى والإيمان والعمل الصالح؛ فالإحسانُ هنا -والله أعلم- هو دوامُ المحافَظة على التقوى؛ أي اجتناب المحرَّمات، ودوام الإيمان؛ أي: مراقبة الله، والمداومة على العمل الصالح.

خلاصة هذا السبب:

وإذن يكون الإحسانُ الذي يحبه الله ويحبُّ فاعليه قد ورد في القرآن الكريم في هذه الصُّوَر:

1- الإنفاق في وجوه البِرِّ، وعلى رأسها الإنفاق في سبيل الله (الجهاد).

2- كظم الغيظ، ودفع الغضب. 3- العفو عن الناس عند المقدرة عليهم.

4- اتباع النبي ﷺ، في القتال والعمل والقول جميعًا.

5- عدم الضعف والتمارض؛ خاصة عن الجهاد في سبيل الله.

6- عدم الذلة والهوان أمام الأعداء. 7- الصبر، وخاصة في الجهاد.

8- الاستغفار من الصغائر والكبائر، وحتى لو ظنَّ الإنسانُ بنفسه الخير.

9- دعاء الله تعالى وسؤاله الثبات والنصرة.

 10- المداومة على التقوى والإيمان والعمل الصالح. والله أعلم بالحق والهادي إليه.


بقلم / محمد صقر


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).