رَفِيقًا ومؤمنًا .. المظهر التاسع والعاشر لمحبة الله عبدًا
ما يكونُ في خاصَّة نفسِ العبدِ المحبوبِ للهِ سبحانَه وله خمْسَةُ مظاهرَ يظهرُ فيهنَّ:
المظهر التاسع لمحبَّةِ اللهِ تعالى عبدًا
أن يكونَ مؤمنًا
عن عبدِ الله بن مسعودٍ، عن النبي ﷺ قال: «إن الله قسمَ بينكم أخلاقَكم كما قسم بينكم أرزاقَكم، وإن الله يُعطِي المالَ من يحبُّ ومن لا يحبُّ، ولا يُعطِي الإيمانَ إلا من يحبُّ، وإذا أحبَّ الله عبدًا أعطاه الإيمانَ»([1]).
وهذا أمرٌ بدَهِيٌّ لا يحتاج إلى تعليقٍ؛ إذ الكافر والمؤمن مرزوقان برِزْق الله، وأحيانًا يكون الكافرُ أوسعَ رزقًا؛ لكن هذا في الدنيا فقط، أما الآخِرَة فهي للمؤمنين فحسب. هذا عن رزق المال والولد وأمور الدنيا التي في حكمهما، أما عن الإيمان ومتطلباته من العلم والخلق وغيرهما؛ فليست تحصل إلا لمن يحبه الله، وأخصُّها بهذه الخصيصة الإيمان الذي يخرج من كان في قلبه ذرة منه من النيران ليجاور الرحمن في نعيم الجنان.
ونودُّ هنا أن نُنَوِّهَ إلى أن الإيمانَ من الأسباب الجالِبَة لمحبَّة الربِّ تعالى عبدَه المؤمنَ على اعتبار أنَّه عمَلٌ في مقدور الإنسان.. قال الله تعالى فيه وفي ضده الكفر: ﴿ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ * ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [النساء: ١٣٦-١٣٧]؛ فهو كالأخلاق الكسبية، وإن يكن أيضًا وهبًا من قبل الوهَّاب سبحانه؛ فهو إذن من آثار نعمة الله تعالى على عبدِه المحبوبِ. وذلك لأنَّ الإيمانَ إيمانان: إيمانُ طلبٍ من العبد الذي يعالج الصلَة بربِّه العظيم، وإيمانُ توفيقٍ وهداية؛ لأنه ﴿ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ﴾ [يونس: ١٠٠]؛ فالإيمانُ هبة ونعمة لا يعطيها الله إلا من يحبُّ، وهو الذي يعقِل؛ أي: الذي يعقِل عن الله حُجَجه ومواعظَه وآياته التي دلَّ بها -جلَّ ثناؤُه- على نبوَّة محمدٍ ﷺ، وحقيقةِ ما دعا إليه من توحيدِ الله وخلعِ الأنداد والأوثان([2]).
المظهر العاشر لمحبَّة الله تعالى عبدًا
أن يكونَ رَفِيقًا
عن جريرِ بن عبدِ الله، أن النبي ﷺ قال: «إن الله D ليُعطِي على الرِّفْقِ ما لا يعطي على الخرَق، وإذا أحبَّ اللهُ عبدًا أعطاه الرِّفقَ، ما من أهل بيتٍ يحرمون الرفق إلا حُرِموا»([1]).
وإن الرِّفق من أخلاق الإسلام التي حضَّ عليها أتباعَه، وقد جاءَ فيه أحاديثُ كثيرة؛ منها: «من يحرَم الرفق يحرم الخيرَ»([2])، و«إن الله رفيقٌ يحبُّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العُنْفِ، وما لا يعطي على سواه»([3])، و«لا يكون الرِّفْق في شيء إلا زانَه ولا يُنـزع من شيءٍ إلا شانَه»([4])، و«عليك بالرفق»([5]). وضدُّ الرفق العنفُ، وفي هذه الأحاديث فضل الرفق والحثُّ على التخلق به وذم العنف، والرفق سبب كلِّ خير، ومعنى «يعطي على الرفق»؛ أي: يثيب عليه ما لا يثيب على غيرِه، أو أنه يتأتى به من الأغراض ويسهُل من المطالب ما لا يتأتى بغيره([6]).
والرفق هو اللُّطْف وأخذُ الأمر بأحسَن الوجوه وأيسَرها، ولِينُ الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل؛ أي أن الله يحبُّ أن يَرْفُق بعضُكم ببعضٍ، «ويعطي عليه» في الدنيا من الثناء الجميل ونَيْل المطالب وتسهيل المقاصد، وفي العقبى من الثواب الجزيل «ما لا يعطي على العنف»؛ أي الشدَّة والمشقَّة، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشرِّ مثلُه. نبَّه به على وطاءَةِ الأخلاقِ، وحسن المعاملة، وكمال المجاملة، ووصَفَ الله E بالرفق إرشادًا وحثًّا لنا على تحرِّي الرفق في كل أمر([7]).
ويجب العلمُ أنَّ من عبادِ الله الأشدَّاء من أحبَّهم، كبعضِ أنبيائه وبعض أوليائه؛ لكن يجب العلمُ أن الرِّفق أفضَل من الشدَّة، وإن كانَ له موطنٌ ولها موطِن، ذانِك اللذان يجب عدم التبديل بينهما؛ إلا أن الرفقاء أقرَب إلى محبَّة الله ورحمتِه.. قال رسول الله ﷺ: «الرُّحَماءُ يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحَمْكم من في السماء»([8])، والله أعلم.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8)«إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
بقلم / محمد صقر
تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.