خلاصة السبب الثامن من محبة الله تعالى لعبده

خلاصة السبب الثامن من محبة الله تعالى لعبده

 

وجملة ﴿ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾ في موضع التعليل؛ لتأكيد الأمر بالوفاء لهم بالإجارة إلى أن يصلوا ديارهم، فلذلك فُصِلت عن الجملة التي قبلها؛ أي: أُمِرنا بذلك بسبب أنهم قوم لا يعلمون، فالإشارة إلى مضمون جملة ﴿ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ أي: لا تؤاخِذْهم في مدة استجارتهم بما سبق من أذاهم؛ لأنهم قوم لا يعلمون، وهذه مذَمَّة لهم بأنَّ مثلَهم لا يُقام له وزْنٌ، وأوْفِ لهم به إلى أن يصلوا ديارَهم؛ لأنهم قومٌ لا يعلمون ما يحتوي عليه القرآن من الإرشاد والهُدى، فكان اسمُ الإشارة أصلحَ طُرُقِ التعريف في هذا المقام جمعًا للمعاني المقصودة، وأوْجَزَه.

وفي الكلام تنويهٌ بمعالي أخلاق المسلمين، وغضٌّ من أخلاق أهل الشرك، وأن سبب ذلك الغضِّ الإشراكُ الذي يُفسِد الأخلاق، ولذلك جُعِلوا قومًا لا يعلمون دون أن يقال بأنهم لا يعلمون؛ للإشارة إلى أن نفي العلم مطَّرِد فيهم، فيشير إلى أن سبب اطراده فيهم هو نشأتُه عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم، وهي عقيدة الإشراك. والعلم في كلام العرب بمعنى العقل وأصالةِ الرأي، وأن عقيدةَ الشرك مضادةٌ لذلك؛ أي: كيف يَعبُد ذو الرأي حجَرًا صنعَه وهو يعلمُ أنه لا يُغني عنه؟!

﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾؛ استئنافٌ بيانِيٌّ نشأَ عن قولِه: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ﴾، ثم عن قوله: ﴿ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾، وعن قولِه: ﴿ﮬ ﮭ﴾ التي كانت تدرُّجًا في إبطال ما بينهم وبين المسلمين من عهودٍ سابقَةٍ؛ لأنَّ ذلك يثير سؤالًا في نفوس السامعين من المسلمين الذين لم يطَّلِعوا على دخيلةِ الأمْرِ، فلعلَّ بعضَ قبائل العرب من المشركين يتعجَّبُ من هذه البراءة ويسأل عن سببها وكيف أنهيتَ العهود وأعلنتَ الحرب؟! فكان المقام مقامَ بيانِ سبب ذلك، وأنه أمران: بُعْدُ ما بين العقائد، وسبْقُ الغدر([1]).

فتؤكِّد هذه الآية مرةً أخرى على الوفاء بالعهد حتى للمشركين الأوفياء، مع أنها تستنكر أن يكون لهم عهدٌ وهم غُدُر؛ لكنها تحذِّر من الغدر بهم قبل أن يغدُرُوا، وقطعًا فإن الوفاءَ للمؤمنين أولى من الوفاء للكافرين، والوفاءَ لله تعالى أولى من كل وفاءٍ؛ فهذه الآية والتي قبلها لا تستثني إحداها شيئًا من الإيمان والإسلام أو التقوى الذي أوضحناه في مطلع هذا السبب، الذي هو في تحصيل محبَّةِ الله تعالى عبادَه لطيفةٌ لا تُتَجاهَل.

خلاصة هذا السبب:

تدور التقوى في الآيات الثلاث في محبَّة الله للمتقين حول الوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وكأنها تأكيد لما سبَق في المانعَيْن الأول والثاني؛ فخُلاصة هذا السبب كما تبيَّن من دراسته:

1- التقوى بمعنى أداء الأمانة والوفاء بالعهد.

2- التقوى بمعنى الوفاء بعهد المعاهدين من المشركين.

3- الوفاء للأوفياء من دون الغادرين؛ لأن الله تعالى لا يمنع أخذَ الحق وإنما يمنع العدوان.

وإنه لعجيبٌ هذا الأمر؛ لكنه ما أرادَه الله تعالى منَّا، وكأنه سبحانَه علِم أن من يحافِظُ على عهودِ الناس -بمن فيهم المشركون المعاهِدون- سيكون أكثرَ حفاظًا على عهودِ المؤمنين، وأكثرَ من ذلك حفاظًا على عهْدِ الله وأمانتِه يوم أخَذَ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهَدَهم على أنفسهم، ويوم قَبِل الإنسان هذه الأمانةَ، إنه كان ظلومًا جهولًا.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.

بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.