حكم المنهمكين في الآثام والمعاصي ... الفرق بين الاثم والذنب
بقلم / محمد صقر
حكم المنهمكين في الآثام والمعاصي
وبهذا يتضح أن الآثام منها ما هو صغير أو لممٌ قد يُعفى عنه إذا اجتنبت الكبائر، ومنها ما هو كبيرٌ يصل إلى الكفر والنفاق -والعياذ بالله- لكن لا يوصف الإثم بالكبير إلا بشرع صريح أو بقرينة تصحبُه؛ كأن يوصف بالمبين أو بالعظيم وكبائر الإثم وما شابه، أو أن يأتي على صيغة المبالغة مثل «أثيم».. إلخ. ومصداق ذلك حديث رسول الله ﷺ: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة؛ فزنا العينِ النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه»([1]).
وقد فسر «اللمم» في آية النجم السابقة بالقبلة والغمزة والنظرة والمباشرة. وقال الإمام أحمد: عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي ﷺ، وذكر الحديث السابق([2]).
وإذن فمجرد الإثم لا يمثل -والله أعلم- مانعًا من محبته تعالى عبدَه؛ لأنه ما من أحدٍ إلا يأثم، ومن الإثم ما هو لممٌ يُكَفَّر بالعبادات وباجتناب الكبائر وبالتوبة وبالابتلاء وغيرها. أما الإثم المانع من محبته تعالى عبدَه فهو الإثم الكبير المبالغ فيه؛ بحيث يصبح من صفات مقترفِهِ الملازمةِ له، فإذا أشير إليه بـ«الأثيم» لم تخطئه العين. وقد ورد ذلك في القرآن الكريم في حالين اثنتين في آيتين تناولناهما بالحديث سلفًا؛ لكن لا يزال فيهما كلام؛ فنقول متوكلين على الله وحده:
أولاً- «الأثيم» بمعنى مستحل الربا:
يقول عز من قائل: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: ٢٧٦]، وقد فرق المفسرون بين «كفار» و«أثيم»، وأعطوا هذا معنًى وهذا معنًى. قال العلامة ابن ناصر السعدي: وهو -أي الكفار الأثيم- الذي كفر نعمة الله، وجحد مِنَّة ربه، وأثم بإصراره على معاصيه([3]).
وقال الشيخ محمد علي الصابوني: «أثيم» كثير الإثم المتمادي في الذنوب والآثام.. أي: لا يحب كل كفور القلب، أثيم القول والفعل([4]). وزاد ابن كثير على كلام الصابوني قوله: فهو جَحُود لما عليه من النعمة.. ظَلُوم آثم.. يأكل أموال الناس بالباطل([5]).
وخلاصة ما نقلناه هنا، وفي المانع الأول (الكفر)؛ أن «كفَّارًا» تختص بالذنب الصادر عن القلب، وهو اعتقاد حلِّ الرِّبَا، وهو كفر لمن علم حرمته، وهو أمر مستفيض بين المسلمين في كل العصور؛ لكن قد يلبِّس على بعضهم بتسميته بغير اسمه خاصة مع الجهل المستشري بينهم فيما يخص علم الاقتصاد. وأما «أثيم» فتختص بالذنب الصادر عن اللسان والجوارح؛ أي قول مستحل الربا: «إنما البيع مثل الربا»، وأكله إيَّاه وتعامله به؛ فيكون ورود «كفار» و«أثيم» معًا للدلالة على كل ما يصدر عن المرابي من ذنوب اعتقادية وقولية وعملية. والله أعلم.
كما قال بعض المفسرين: إن «أثيمًا» توكيد لـ«كفَّار»، وإن الإثم من معانيه الكفر؛ لأنه يشمل جميع الذنوب؛ خاصة إذا كان بصيغة المبالغة. ولا منافاة بين هذا والأول؛ لأن الكل يفهم من الآية ولا يعدُّ أحدهما تأويلًا بعيدًا.
هل الإثم وحده مانع من محبة الله تعالى عبدَه كالكفر وحده؟
الجواب: أنه قد ورد الكفر وحده مانعًا من محبة الله تعالى عبده؛ كما قال: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٣٢]، وكما قال: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [الروم: ٤٥].
أما الإثم فلم يرد وحده مانعًا من محبته تعالى، إنما جاء مرة مقرونًا بالكفر ومرة مقرونًا بالخيانة. كذلك فإن الكفر والخيانة من كبائر الذنوب دائمًا وليس فيهما لممٌ، أما الإثم فمنه الكبير واللمم؛ لذا فلا نقول: إن المعاصي والآثام تمنع من محبة الله تعالى عباده بإطلاق. والله أعلم.
ثانيًا- «الأثيم» بمعنى الخوَّان المنافق:
يقول تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء: ١٠٧]، وفيها أن «أثيمًا» قد تكون بدلًا من «خوَّان»؛ أي: بنفس معناها، أو توكيدًا لها؛ كما كانت في الآية السابقة بدلًا من «كفَّار» أو توكيدًا لها، وقد يكون معناها مغايرًا لمعنى «خوَّان» أو زائدًا عليه، وذلك كما في أقوال المفسرين الآتية.
1- قال ابن جرير: إن الله لا يحب من كان صفته خيانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرَّمه الله عليه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل([6]).
2- وقال الشوكاني: والخوَّان كثير الخيانة، والأثيم كثير الإثم، وعدم المحبة كناية عن البغض([7]).
3- وقال السعدي: ﴿يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾؛ أي كثير الخيانة والإثم، وإذا انتفى الحب ثبت ضده وهو البغض، وهذا كالتعليل للنهي المتقدِّم؛ أي لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾([8]).
4- وقال الصابوني: ﴿يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾؛ أي: لا يحب من كان مفرطًا في الخيانة منهمكًا في المعاصي والآثام([9]).
وهكذا يعمم المفسرون الآية ولفظ أثيم، وكأنهم عملوا بقاعدة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وقد أوردنا سبب نزول الآية في المانع الثاني (الخيانة).
والخلاصة: أن الله سبحانه لا يحب المنهمكين في الآثام والمعاصي، وليس الكفر أو الخيانة أو الربا أو السرقة فقط، وهذه الآية والتي في سورة البقرة تحتملان هذا إذا اعتبر «أثيم» شيئًا غير «كفَّار» وغير «خوَّان»؛ غير أننا نقف عند هذه الأربعة: (الكفر، والخيانة، واستحلال الربا، واقتراف الكبائر مع إلصاقها بالغير)، كموانع من محبته تعالى فاعليها، وذلك لأننا لا نستطيع إطلاق موانع محبة الله تعالى من القيود التي قيَّدها بها الوحي المنـزَّل، وإلا لقلنا ما ليس عندنا عليه دليل ولا لنا به علم.
خلاصة هذا المانع:
وخلاصة ما يحترز منه ويخشى أن يمنع من محبته تعالى عبدًا، بحسب آيتي البقرة والنساء السالفتين، ستة أمور:
1- الكفر أيًّا كان نوعه، وخاصة الكفر الأكبر.
2- الخيانة أيًّا كان نوعها، وخاصة إذا كانت صفةً ملازمة تتكرر ممن يأتيها، أو كانت خيانة في أمر كبير؛ لأن الأمر الكبير دليل على خبث النفس واستهزائها.
3 - استحلال الربا وأكله والتعامل به، وخاصةً إذا أصر المرابي عليه وزينه لغيره.
4- اقتراف الكبائر، وخاصةً إذا اتهم بريئًا بها وبسوء فعاله.
5- النفاق أيًّا كان نوعه، وخاصة إذا كان نفاقًا أكبر.
6- الأثيميَّة كصفة لازمة وليس مجرد الإثم كحدث عارض، وخاصة إذا كان الأثيم منهمكًا في آثامه مصرًّا عليها، لا يأبه بالزواجر. والله أعلم بالحق.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).