حكم الله على الكفر بالنعمة وباليوم الآخر

حكم الله على الكفر بالنعمة وباليوم الآخر

بقلم / محمد صقر

حكم الله على الكفر بالنعمة وباليوم الآخر

كفر النعمة: وهو مبنِيٌّ على ما سبق من كتمان النعمة؛ لأنه يكتم النعم فإذا حُدِّث عنها قال لمن يحدثه: وما شأنُك أنت؟ إنه مالي ورثته كابرًا عن كابر؛ فأنا أصيل المحتد وغيري غيرُ أنسِباء. أو يقول: شَقِيتُ به؛ فأنا صاحب عقل وذكاء وأنا عصاميّ.

وبعضهم قد يُقِرُّ بأن عقله وذكاءه -إذا افترضنا جدلًا أنهم عقلاء أذكياء([1])- هبةٌ من الله؛ لكنهم ينكرون كون المال أيضًا هبةً منه تعالى. ومعلوم أن كفر النعمة كفرٌ أصغر.. هذا إذا كان المختال مسلمًا، وقد يكون كافرًا كفرًا أكبر، وهو الغالب، إذا كان بهذه الصفات التي تقصُّها الآيات، كما سيأتي في الآية الآتية.. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: ٣٧].

5- الإنفاق رياءً وسمعةً: فإنه إذا أنفق لا ينفق ابتغاء مرضاة الله، ولكن رئاء الناس، وذلك لأن المختال الفخور تلازمه صفاته الدنيئة في كل تصرفاتِهِ، فهو لكفره لا ينفق ابتغاء مرضاة الله؛ إذ لا يقر بنعمته وربما لا يقر بوجوده -سبحانه وتعالى عما يصفون- ثم هو يوجِّه فعلَه حتى لو أنفق ليخدم أغراضه الخبيثة؛ فيعطي عن يد كبْرٍ وعُلوٍّ، وربما أكب الآخذ على يده يقبِّلها فيتركه يركع عليها نشوانًا بذلك الفعل المخجل لكليهما.. كل هذا ليُرضِيَ المختال الفخور مركَّبَ النقص في نفسه القميئة.. قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ [النساء: ٣٨].

6- الكفر بالله تعالى: وذلك لأن المختال الفخور يظل يتدنى به كبره وخيلاؤه حتى ينكر نعمةَ الله، ثم يظن نفسَه مستغنيًا عن الله، ثم ينكر وجودَه تعالى، بل قد تصل به الحال إلى تأليه نفسِه، والناظر في حال قارون وفرعون يلحظ ذلك..

 7- الكفر باليوم الآخر: وهو لازم لمن هذه حاله؛ لأن الإيمان باليوم الآخر ملزِمٌ بالعمل الصالح، وهذا عملُه كلُّه فاسد، وما يظن أنه صالح هو في الحقيقة رياءٌ وكفر، فلزِم المختال الفخور أن ينكر اليوم الآخر؛ لأنه كالشوكة في حلقه، وله في صاحب الجنتين مثَلُ السوء..

قال تعالى على لسانه: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: ٣٦]؛ فأضاف بذلك صفة أخرى، وهي أنه ظن بنفسه الخير في الآخرة كما في الأولى، ولم يعِ أن ما هو فيه في الدنيا ابتلاءٌ من الله له.

كما أن إنكار المختال الفخور لليوم الآخر يكون أيضًا لحبه الدنيا التي يرى نفسه فيها كما يحبُّ أن يرى نفسه، وهو بذلك لا يريد أن ينتقل إلى الدار الآخرة؛ ظنًّا منه أن أهلها ليسوا كما يريد؛ فيحقر نعيمَ الكريم بالأوهام القائمة في نفسه الدنيئة.. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴾ [النساء: ٣٨].

 8- مرافقة الشياطين: وذلك من صفاتِه خاصةً؛ لأنه لا يفتأ يذكر نفسَه، ولذا لا يفتأ يرتكب المعاصي ليُرضي غروره وشهواته القائمة على الكبر والعجب؛ فالشياطين قريبون منه لا يفارقونه، فهو ينام ويصحو يقول في نفسه: فلان يعرف عني كذا.. فلان يعجبه أن أُعلِمَه بكذا من صفاتي الحميدة. ويقول: فلان ذكَر من عيوبي كذا، يجب أن أخاصمه، لا.. يجب أن أؤدِّبَه. فتنفخ شياطين الجن والإنس في نفسه المضطرمة أحقادًا وحسدًا..

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ [النساء: ٣٨]. ثم عقب تعالى على دناءة وحقارة هذه الصفات، وعلى عدم جدواها بقوله: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ [النساء: ٣٩]؟! أي: ماذا سيخسرون لو فعلوا ذلك؟! جملةً من أخس الصفات والأخلاق لو خسروها كان أفضل لهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ثانيًا- تصعيرُ الخَدِّ للناسِ، والمشيُ في الأرض مرحًا:

قال تعالى -على لسان لقمان وهو يوصي ابنه-: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: ١٨]. وقد أضافت هذه الآية صفتين قبيحتين إلى جملة رذائل المختال الفخور السابقة.. وهما:

1- تصعير الخد للناس: ومعنى قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ -كما قال عبد الله بن عباس وجماعة-: لا تُمِل خدَّك للناس كبْرًا عليهم وإعجابًا واحتقارًا لهم، وقيل: هو أن تلوِي شِدْقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقرُه. قال عمرو بن حُنيّ التغلبيّ: وكنا إذا الجبَّار صعَّر خده أقمنا له من ميله فتقوّمِ([2])#تنسيق شعر#

وفي بيت آخر:

أقمنا له من خده المتصعِّرِ#ع تنسيق#

يقال: أصاب البعير صعَرٌ وصيَرٌ؛ إذا أصابه داء يلوي منه عنقه، استعير للإنسان، ويكنى به عن الكبر والعجب وهما من الكبائر القلبية.. ثم يقال للمتكبر: فيه صعر وصير، فمعنى: لا تصعر، أي: لا تلزم خدَّك الصعر([3]).

2- المشي في الأرض مرحًا: قال القرطبي: ﴿وَلَا تَمْشِ ﴾؛ أي: متبختِرًا متكبِّرًا.. وهو النشاط والمشي فرحًا في غير شغلٍ وفي غير حاجة، وأهل هذا الخُلُق ملازمون للفخر والخيلاء؛ فالمَرِح مختال في مشيته([4]).

وفي الأثر المنقطع أن الخضِر قال لموسى S في وصاته له: «ولا تمش في غير حاجة»([5])، ومعنى ألا يمشي الإنسان لغير حاجة؛ أي: لغير حاجةٍ نافعةٍ أخرويًّا أو دنيويًّا، وليس لمجرد حاجةٍ في نفسه؛ لأن المختال الفخور يمشي لحاجةٍ في نفسِه، وهي أن يُرِيَ الناس نفسَه إعجابًا بها، وهو ما ينافي الحياء الذي هو من شعب الإيمان ومكارم الأخلاق الإسلامية، وينافي أيضًا حديث النبي ﷺ: «وليسعك بيتُك»([6]).

وإذن فمن صفات المختال الفخور التي لا يحبه الله لأجلها: تصعير الخد للناس؛ أي: الكبر والعجب واحتقار الناس، والمشي في الأرض مرحًا، وسيأتي في الحديث عن الفرح المذموم، كما في سورة الحديد في الآية الآتية.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرح ه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.