حكم الكيد في الإسلام ... مانع من موانع محبة الله عبدًا

مانع من موانع محبة الله عبدًا

قال بعض المفسرين: إيقاد النار كناية عن إرادة الحرب، وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ويسمونها نار الحرب، وهي إحدى نيران مشهورة عندهم، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم، وثمة في الآية أقوال:

الأول: أنه إيقاد نار حقيقية، وكذا الإطفاء حقيقي؛ أي أنهم كلما أوقدوا نارًا للمحاربة ألقى عليهم الرعب، فتقاعدوا وأطفأها، وإضافة الإطفاء إليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب الأصلي.

الثاني: وهو قول جمهور المفسرين، وهو تخريج الكلام مخرج الاستعارة، والمراد من إيقاد النار إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار، ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين.

 الثالث: قال الآلوسي: ولعل القول بالكناية ألطف منهما، وكون المراد من الحرب محاربة الرسول ﷺ.

الرابع: أنه أعم من ذلك؛ أي: كلَّما أرادوا حربَ أحد غُلبوا؛ فإن اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس([1]) الرومي، ثم أفسدوا فسلَّط -جل شأنه- عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم رسوله ﷺ؛ فأباد خضراءهم واستأصل شأفتهم وفرق جمعهم وأذلَّهم؛ فأجلى بني النضير وبني قينقاع وقتل بني قريظة، وأسر أهل خيبر، وغلب على فدك، ودان له أهل وادي القرى، وضرب على أهل الذمة الجزية.

الخامس: كلما عقدوا أسبابًا يكيدونك بها، وكلما أبرموا أمورًا يحاربونك بها؛ أبطلها الله وردَّ كيدهم عليهم، وحاق مكرهم السيئ بهم، ومن سجيتهم أنهم دائمًا يسعون في الإفساد في الأرض، والله لا يحب من هذه صفته([2]).

أي: كلما جمعوا للحرب جمعًا وأعدوا له عدة؛ شتَّت الله جمعهم، وذهب بريحهم، فلم يظفروا بطائل ولا عادوا بفائدة؛ بل لا يحصلون من ذلك إلا على الغلب لهم، وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها ثم يبطل الله ذلك؛ أي: يجتهدون في فعل ما فيه فساد، ومن أعظمه ما يريدونه من إبطال الإسلام وكيد أهله.

وقيل: المراد بالنار هنا الغضب؛ أي: كلما أثاروا في أنفسهم غضبًا أطفأه الله بما جعله من الرعب في صدورهم والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم. وإن كانت اللام للجنس فهم داخلون في ذلك دخولًا أوليًّا، وإن كانت للعهد فوضع الظاهر موضع المضمر؛ لبيان شدة فسادهم وكونهم لا ينفكون عنه([3]).

أو كلما أرادوا حرب الرسول ﷺ وإثارة شرٍّ عليه؛ ردَّهم الله بأن أوقع بينهم منازعةً كف بها عنه شرَّهم، أو كلَّما أرادوا حرب أحد غُلِبوا([4]). أو كلما أرادوا محاربتك ردَّهم الله وألزمهم الخوف([5]).

أو هو تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين؛ أي: كلما أرادوا محاربة الرسول ورتبوا مباديَها، وركبوا في ذلك متن كل صعب وذلول؛ ردَّهم الله تعالى وقهرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا([6]).

وفي قوله: ﴿ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ﴾؛ أي: يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله، وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم، مما يغاير ما عبّر عنه بإيقاد نار الحرب؛ كتغيير صفة النبي ﷺ([7])، وإدخال الشُّبه على ضعفاء المسلمين، والمشي بالنميمة مع الافتراء، ونحو ذلك. أي للفساد، وهو اجتهادهم في الكيد، وإثارة الحروب والفتن وهتك المحارم([8]). يعني: يجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر النبي ﷺ من كتبهم([9]).

وفي قوله: ﴿﴾؛ بل يبغضهم، ولذلك أطفأ نائرة فسادهم([10]). ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله؛ فيكفرون بآياته ويكذِّبون رسله، ويخالفون أمره ونهيه، وذلك سعيهم فيها بالفساد.. والله لا يحب من كان عاملًا بمعاصيه في أرضه([11]). فلا يجازيهم إلا شرًّا([12]).

واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولًا أوليًّا، وإما للعهد ووضع المظهر مقام الضمير للتعليل، وبيان كونهم راسخين في الإفساد، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب﴾؛ أي اليهودُ والنصارى.

على أن المراد بالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل، وإنما ذكروا بذلك العنوان تأكيداً للتشنيع فإنَّ أهليةَ الكتاب توجب إيمانهم به وإقامتَهم له لا محالة؛ فكفرُهم به وعدمُ إقامتهم له، وهم أهله، أقبحُ من كُلِّ قبيحٍ وأشنعُ من كل شنيع([13]).

وقد أفسد بني إسرائيل في الأرض مرارًا وتكرارًا على مدار تاريخهم الحافل بسوء أفعالهم وخبث نواياهم.. وعن مجاهد: ﴿ ﴾ هم اليهود.. فلن تلقى اليهود ببلدٍ إلا وجدتهم من أذل أهله.. لقد جاء الإسلام حين جاء وهم تحت أيدي المجوس أبغض خلقه إليه. وعن السدي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرَّقه الله وأطفأ حدهم ونارهم، وقذف في قلوبهم الرعب. وقال مجاهد: قوله: ﴿ ﴾، قال: حرب محمد ﷺ([14]).

قال الطبري: ﴿ ﴾؛ يعني بـ«الطغيان» الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمدٍ ﷺ والتمادي في ذلك. ﴿ﯿ﴾ يقول: ويزيدهم مع غلوِّهم في إنكار ذلك جحودهم عظمة الله ووصفهم إيَّاه بغير صفته بأن ينسبوه إلى البخل، ويقولوا: ﴿ﯥ ﯦ ﯧ﴾، وإنما أعلم -تعالى ذكره- نبيه ﷺ أنهم أهل عُتُوٍّ وتمرد على ربهم، وأنهم لا يذعنون لحقٍّ وإن علموا صحته، ولكنهم يعاندونه.. .

يسلي بذلك نبيه محمدًا ﷺ عن الموجدة بهم في ذهابهم عن الله وتكذيبهم إيَّاه. ﴿ ﴾: بين اليهود والنصارى عن مجاهد؛ فإن قال قائل: وكيف قيل: ﴿﴾ فجعلت الهاء والميم في قوله: ﴿ﰂ﴾ كنايةً عن اليهود والنصارى، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟ قيل: قد جرى لهم ذكر، وذلك قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٥١].. جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين وفي بعض عن أحدهما، إلى أن انتهى إلى قوله: ﴿ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾، ثم قصد بقوله: ﴿ﰁ ﰂ﴾ الخبر عن الفريقين([15]).

ومخالفة اليهود -في سيِّئ أخلاقِهم وفعالِهم- أمرٌ مقصودٌ شرعًا، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية T([1]).

فلهذا نخالف المشركين واليهود والنصارى والمجوس.. في المظهر، وطريقة الخطاب، واختيار اللفظ، وفي القِبلة.. إلى آخر ما حذَّر الشرع من مشابهتهم فيه. كذلك ننبه كثيرًا بالقول: «وهذا من فعل اليهود»، «وهذا من فعل المشركين»، «وهذا من صفات المنافقين».. إلخ.

كما ينبغي أن يُعْلم أن اليهود والنصارى يأتون في زمننا هذا أمورًا جسيمةً، وقد حذَّرنا النبي ﷺ من موافقتهم فيها، ومع ذلك تجد كثيرًا من المسلمين يسارعون في تقليدِهم، وإني أقول -بناءً على ما تقدَّم-: إنه يحرم على المسلمين تقليد اليهود والغرب، وربما كان هذا مانعًا من محبَّة الله تعالى عبدَه الذي يفعل ذلك؛ فلتحذر أخي المسلم من تقليدهم في طرق الأكل واللباس والسكنى، ومن الاستماع إلى المحرَّم، ومن غيرها مما لم تقف على حلِّه في الشرع المحمديِّ الحنيف.

هذا، وتشيع في الدراسات حول اليهود -سواءً عند المسلمين أو غيرهم- أحاديث عن طبائع اليهود وأخلاقهم، وتتفق هذه الدراسات -في غالب الأحيان- على أن طبائع اليهود سافلةٌ وأخلاقهم رذيلة، وثمة من يشككون في هذا ويعتبرونه من قبيل الإطلاقات العامة التي لا يؤيِّدُها الدليل، وأيًّا ما كان الأمر؛ فإننا نتقيد فيما نقول بالوحي المنـزَّل الذي لا يأتيه الباطل، ولا يكذبه الواقع.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.
(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.
(13) «الأربعين النووية» لأبي زكريا محيي الدين النووي (المتوفى 676هـ) تحقيق: قصي محمد نورس الحلاق وأنور بن أبي بكر الشيخي ط1 دار المنهاج للنشر والتوزيع (ط. ت).
(14) «إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم» لأبي السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى 982هـ) ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت (د. ت).

بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.