المانع الخامس عشر من محبة الله عبدًا .. جملة أخلاق يكرهها الله

جملة أخلاق يكرهها الله

اللدد في الخصام، مناقضة القولِ الفعلَ، كره لقاء الله تعالى، التخلق والاشتغال بسفساف الأخلاق، الفحش والتفحش والبذاءة، الجهر بالسوء، الإلحاف في السؤال، قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، التثاؤب، الاضطجاع على البطن

اللدد في الخصام:

عن عائشة ڤ عن النبي ﷺ قال: «إن أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخصِم»([1]).

قال الحافظ -في «الفتح»-: قوله: «الألد الخصم»؛ هو الدائم الخصومة، والاسم اللدد، مأخوذ من لديدَيِ الوادي، وهما جانباه([2]). وقال النووي -في «شرح مسلم»-: «أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم» هو بفتح الخاء وكسر الصاد، والألدُّ شديد الخصومة، مأخوذ من لديديِ الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كلَّما احتجَّ عليه بحجة أخذ في جانب آخر، وأما «الخَصِم» فهو الحاذق بالخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع([3]) حقٍّ أو إثبات باطل([4]).

وقال المناوي: «كفى بك إثمًا أن لا تزال مخاصمًا»؛ لأن كثرة المخاصمة تفضي غالبًا فيما يذم صاحبه، وقد ورد الترغيب في ترك المخاصمة؛ ففي سنن أبي داود عن أبي أمامة رفَعَه: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا»([5]).

، و«أبغض العباد إلى الله تعالى الألدُّ الخصم»؛ كما في الصحيحين.. قال بعضهم: ما رأيت شيئًا أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أضيع للَّذة ولا أشغل للقلب من المخاصمة. فإن قيل: لابد من الخصومة لاستيفاء الحقوق؛ فالجواب ما قال الغزالي: أن الذمَّ المتأكد إنما هو خاصٌّ بباطل أو بغير علم؛ كوكلاء القاضي. وقال بعض العارفين: إذا رأيت الرجل لجوجًا مرائيًا معجبًا برأيه فقد تمت خسارته([6]).

اللدد في الخصام من صفات المنافقين:

عن عبد الله بن عمرو، أن النبي ﷺ قال: «أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدَعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»([7]).

قال العظيم آبادي: «وإذا خاصم فجر»؛ أي: مال عن الحق، وقال الباطل والكذب. قال أهل اللغة: أصل الفجور الميلُ عن القصد.. قاله النووي([8]).

وقال المناوي: «وإذا خاصم فجر»؛ مال في الخصومة عن الحق، وقال الباطل([9]).  وقال النووي: هذا الحديث مما عدَّه جماعة من العلماء مشكلًا؛ من حيث إنَّ هذه الخصال توجد في المسلم المصدِّق الذي ليس فيه شكٌّ، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدِّقًا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال؛ لا يحكم عليه بكفرٍ، ولا هو منافق يخلد في النار.

فإن إخوة يوسف ﷺ جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كلّه، وهذا الحديث ليس فيه -بحمد الله تعالى- إشكال؛ ولكن اختلف العلماء في معناه؛ فالذي قاله المحققون والأكثرون، وهو الصحيح المختار: أن معناه: أنَّ هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلِّق بأخلاقهم؛ فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافَه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال.

ويكون نفاقُه في حقِّ من حدَّثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنَّه منافق في الإسلام، فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يُرد النبي ﷺ بهذا أنَّه منافق نفاق الكفار المخلَّدين في الدرك الأسفل من النار، وقوله ﷺ: «كان منافِقًا خالصًا»، معناه: شديد الشبه بالمنافقين؛ بسبب هذه الخصال.

وقال: قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبةً عليه، فأما من يندُر ذلك منه فليس داخلًا فيه؛ فهذا هو المختار في معنى الحديث، وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي I معناه عن العلماء مطلقًا، فقال: إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وقال جماعة من العلماء: المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي ﷺ فحدَّثوا بإيمانهم وكذَبوا، واؤتُمِنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصرِه فأخلفوا، وفجَروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، ورجع إليه الحسن البصري T بعد أن كان على خلافه.

وهو مرويٌّ عن ابن عباس وابن عمر M ورويَاه أيضًا عن النبي ﷺ.. قال القاضي عياض T: وإليه مال كثير من أئمَّتنا، وحكى الخطابي T قولًا آخر: أن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يُخاف عليه أن تُفضِي به إلى حقيقة النفاق، وحكى الخطابي T أيضًا عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق، وكان النبي ﷺ لا يواجِهُهم بصريح القول فيقول: فلان منافق، وإنما كان يشير إشارةً؛ كقوله ﷺ: «ما بالُ أقوامٍ يفعلون كذا»([10]) والله أعلم، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:

في الرواية الأولى: «أربع من كنَّ فيه كان منافقًا»، وفي الرواية الأخرى: «آيةُ المنافق ثلاث» فلا منافاة بينهما؛ فإن الشيء الواحد قد تكون له علامات كل واحدة منهن تحصل بها صفته، ثم قد تكون تلك العلامة شيئًا واحدًا، وقد تكون أشياء، والله أعلم. وقوله ﷺ: «وإن خاصمَ فجَر»؛ أي: مال عن الحقِّ، وقال الباطل والكذب؛ قال أهلُ اللغة: وأصلُ الفجور الميلُ عن القصد، وقوله ﷺ: «آيةُ المنافق»؛ أي: علامته ودلالته، وقوله ﷺ: «خلة» و«خصلة» هو بفتح الخاء فيهما، وإحداهما بمعنى الأخرى([11]).

(2) مناقضةُ القولِ الفعلَ:

يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) [الصف: ٢، ٣].. جاء في «تتمة أضواء البيان» ما يلي: في الآية الأولى إنكارٌ على الذين يقولون ما لا يفعلون، وفي الآية الثانية بيانٌ لشدَّة غضب الله ومقته على من يكون كذلك، ولكن لم يبيِّن هنا القول المغاير للفعل المنهيِّ عنه، والمعاتبون عليه، والمستوجب لشدَّة الغضب؛ إلا أن مجيء الآية الثالثة -أي قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف: ٤].

بعدهما يشعر المعاتبون عليه، والمستوجب لشدَّة الغضب؛ إلا أن مجيء الآية الثالثة -أي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: ٤]- بعدهما يشعر بموضوع القول والفعل، وهو الجهاد في سبيل الله.

وقد اتفقت كلمةُ علماء التفسير على أن سبب النـزول -مع تعدُّده عندهم- أنه حول الجهاد في سبيل الله من رغبة في الإذن لهم في الجهاد، ومعرفة أحبِّ الأعمال إلى الله، ونحو ذلك.

وقد بيَّن القرآن في عدة مواضع أن موضوع الآيتين الأولى والثانية فيما يتعلق بالجهاد وتمنيهم إيَّاه.. من ذلك قوله تعالى عنهم: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ﴾ [محمد: ٢٠].

ومنها قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: ٧٧]، ومنها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ ۚ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ﴾ [الأحزاب: ١٥]  فمثل هذه الآيات جاءت في سياق الحديث عن الجهاد، وأكثر من ذلك جاء في سياق الردِّ على السائلين عنه، والله أعلم.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.

بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.