توزُّعُ الصالحين بين الرفق والشدة

وقال الإمام النووي: هذا من عظيم خُلُقِه ﷺ وكمال حلْمه، وفيه حثٌّ على الرِّفق والصبر والحلم وملاطفة الناس، ما لم تدعُ حاجةٌ إلى المخاشنة([1]).

توزُّعُ الصالحين بين الرفق والشدة:

ولقد نكون في مسيس حاجةٍ إلى بحث عميق يدور حول هذه الجزئية لأسبابٍ أحسبها وجيهةً.. لعل منها:

1- أننا -معشر المسلمين- ابتلينا في هذا الزمن بالاختلاف حتى تفرَّق أمرُنا بسببه، وتمزَّقْنا كل ممزق.

2- أن لاختلافنا هذا سببًا ممدودًا بالطباع التي تختلف من شخصٍ لآخر، بل من مجموعةِ أشخاص كبيرةٍ جدًّا إلى مجموعةٍ أخرى كبيرة أيضًا. وهذا أمر حادثٌ في الأمة المسلمة بعد عهود الأخيار من الصحابة والتابعين M.

3- أن دارسي موضوع الاختلاف -على ذكرِهم الجهل والتعصُّب والإغراض وغيرها كأسبابٍ للخلاف- يكادون يغفلون اختلاف الطباع والأمزجة كسببٍ للاختلاف، فلم يَشُع بين الناس أنه سبب له؛ كالجهل والتعصب والإغراض، مع أنه أهمُّها وأخطرها.

4- أن الدِّين الخاتم (الإسلام) لم يَنْزل للرفقاء فقط ولا للخشناء فحسب، فكان أجدرَ بنا -لو أحسنَّا الفهم- أن نراعِيَ اختلاف الأمزجة والطباع، فما كان من الخلاف لذلك تقبَّلناه؛ كما تقبَّل أبو بكر I رأي عمر وابن رواحة، وكما تقبَّلا L رأيَه في أسرى بدرٍ في الرواية الآتية.

قال المباركفوري: لما كان يومُ بدرٍ وجِيء بالأسارَى، قال رسول الله ﷺ: «ما تقولون في هؤلاء؟» فقال أبو بكرٍ: يا رسولَ الله! قومُك وأهلك.. استبْقِهم واستأنَ بهم، لعل اللهَ أن يتوبَ عليهم، وخذ منهم فديةً تكون لنا قُوَّةً على الكفَّار. وقال عمر: يا رسول الله! كذَّبوك وأخرجوك فدعهم نضرِب أعناقهم.. مكِّن عليًّا من عقيلٍ فيضرب عنقه، ومكِّن حمزة من العباس فيضرب عنقه.

ومكنِّي من فلان -نسيبٍ لعمر- فأضرِب عنقه؛ فإن هؤلاء أئمةُ الكفر. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! انظر واديًا كثيرَ الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم نارًا؛ فقال له العباس: قطعت رحِمَك. فسكت رسول الله ﷺ فلم يُجبهم ثم دخل، فقال ناسٌ: يأخذُ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابنِ رواحة. ثم خرج رسول الله ﷺ فقال: «إن اللهَ ليُلِينُ قلوبَ رجالٍ حتى تكون أليَن من اللين، ويشدُّ قلوب رجال حتى تكون أشدَّ من الحجارة، وإن مثلَك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: ﴿ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾ [إبراهيم: ٣٦]، ومثلَك يا أبا بكر مثل عيسى قال: ﴿ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾ [المائدة: ١١٨].

ومثلك يا عمر مثل نوحٍ قال: ﴿ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾ [نوح: ٢٦]، ومثلَك يا عبدَ اللهِ بنَ رواحةَ كمثل موسى قال: ﴿ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ﴾ [يونس: ٨٨]». ثم قال رسول الله ﷺ: «اليوم أنتم عالةٌ فلا يفلتنّ أحدٌ منهم إلا بفداء أو ضرب عنق»، قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء؛ فإني سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله ﷺ، قال: فما رأيتُني في يومٍ أخوفَ أن تقع عليَّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم، حتى قال رسول الله ﷺ: «إلا سهيل بن بيضاء»([2]).

قال ابن عباس: قال عمر بنُ الخطاب: فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر ولم يهْوَ ما قلتُ، وأخذ منهم الفداء؛ فلما كان من الغدِ جئتُ فإذا رسول الله ﷺ وأبو بكر قاعدانِ يبكيان؛ فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله ﷺ: «أبكي على أصحابك مِن أخذِهم الفداء، لقد عُرِض عليَّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرة» لشجرةٍ قريبة من نبي الله ﷺ؛ فأنزل الله D عليه: ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ﴾ [الأنفال: ٦٧] الآية([3]).

وإذن فإبراهيم وعيسى -عليهما السلام- وأبو بكر الصديق I كانوا رُفقاء ليِّنين، وموسى ونوحٌ -عليهما السلام- وعمر بن الخطاب وعبد الله بنُ رواحة L كانوا أشداء خشناء؛ فما علينا أن يكون بيننا -معاشر المسلمين- اليوم، ونحن الأقل غَناءً وزكاءً، أن يكون فينا من يشبه هذا الفريق أو ذاك؟! وأن نكُفَّ عن أن يحمل الليِّنون على الأشداء أو الأشداء على الليِّنين، مادام الشرع يسعُ هذا وهذا؟! ألم يسَع الشرعُ الحنيف أبا بكرٍ وعمر، ومن قبلهما إبراهيم وموسى قدوتان لمن يقتدي؟! ألم يتبع عمر بن عبد العزيز سياسةَ ابن الخطاب في حين لم يطق سياسة الصدِّيق؟! ومن قبله لم يطق عثمانُ وعليٌّ L سياستَهما؛ فما لنا لا نتعلَّم؟!

لماذا يوجب بعضهم على الجميع جهادَ التطوُّع في كل ثغرٍ، ويوجب آخرون عليهم قيامَ الليل حتى تشرق الشمس؟! في حين أن فرائض الإسلام معروفةٌ ومندوباتُه معروفة.. لماذا -يا إخوَتاه- لا تُقرُّون بأن لكل واحدٍ طاقةً واحتمالًا؟!

ألم تقرءوا قصة معاذٍ وسلَيم؛ التي جاء فيها أنه «كان معاذٌ يصلِّي مع رسول الله ﷺ العشاء الآخرة، ثم يرجعُ فيصلي بأصحابه، فرجَع ذات ليلة فصلَّى بهم، وصلَّى فتًى من قومِه من بني سلَمةَ يقال له: سليم، فلما طال على الفتى انصرف فصلَّى في ناحية المسجد، وخرج وأخذ بخطام بعيره وانطلق، فلما صلَّى معاذٌ ذُكِرَ ذلك لَه؛ فقال: إن هذا به لنفاقٌ! لأُخبرنَّ رسولَ الله ﷺ بالذي صنع، وقال الفتى: وأنا لأخبرنَّ رسولَ الله بالذي صنع. فغدَوَا على رسول الله ﷺ، فأخبَرَه معاذٌ بالذي صنع الفتى؛ فقال الفتى: يا رسولَ الله! يطيل المُكث عندك ثم يرجِع فيطيل علينا؛ فقال رسول الله ﷺ: أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟!

وقال للفتى: كيف تصنعُ أنت يا ابنَ أخي إذا صلَّيتَ؟ قال: أقرأُ بفاتحة الكتاب، وأسأل اللهَ الجنةَ وأعوذ به من النار، وإني لا أدري ما دندنتُك ودندنة معاذٍ! فقال رسول الله ﷺ: إني ومعاذًا حول هاتين ندندن، أو نحو ذا. قال: فقال الفتى: ولكن سيعلمُ معاذٌ إذا قدِم القوم -وقد خُبِّروا أن العدُوَّ قد أَتَوْا-؛ قال: فقدموا فاستُشْهِد الفتى؛ فقال رسول الله ﷺ بعد ذلك لمعاذ: ما فعل خَصمي وخصمُك؟ قال: يا رسول الله! صدق اللهَ وكذبتُ.. استشهد»([4]).

إننا -معاشر المسلمين- في أمسِّ الحاجة إلى بابٍ من العلم يحصر لنا ما أمكن مما يسع فيه الخلاف، وفي حاجةٍ إلى تأصيلٍ فقهي لهذا الباب من العلم؛ فهل من العلماء أو طلبة العلم من يقومُ بذلك؟ إنها دعوةٌ أتوجَّه بها إلى الحريصين على نزع فتيل الاختلاف بين المسلمين، وبخاصَّة أهل السنة والجماعة؛ الذين -يا للحسرة والخسارة- تفرَّقوا بين حديثِيِّين ونِقابيِّين وسياسيِّين وجِهاديِّين؛ فيقول الحديثيون: الحديث ولا نقابات ولا سياسة ولا جهاد الآن. ويقول النِّقابيُّون: نفعُ المسلمين وتسيير أمورهم أوْلى. ويقول السياسيون: السياسة ولا شيء غيرها. ويقول الجهاديون: الجهاد.. الجهاد!!

أمَا إنِّي لأقول: إن العلمَ والسياسةَ والسعيَ في حاجة المسلمين والجهادَ في سبيل الله.. كلَّ ذلك وغيره في الإسلام، ولا يصحُّ إخراجُ شيءٍ منها من الدِّين ما دمتم مجمِعِين على أن الإسلام منهجُ حياة شاملٍ متكامل، وكيف يكون شاملًا متكاملًا إن لم يكن يحتوي هذه المجالات الحياتية كلَّها؟! فليسعْنا -أيها القوْمُ- ما وسِع أنبياءَ الله وأصحابَ رسول الله.

إن تعلُّم عقيدةَ التوحيد لا يتأجَّل، وجهادَ العدو المحتلِّ بلادنا لا يتأجل، والسعي في حاجات الفقراء والمعوِزين لا يتأجل، ومحاربة الفساد المستشري في سياسة وإدارة العلمانيِّين بلادَنا لا يتأجَّل.. ولا ضيرَ أن تقوم طائفةٌ منا بشيء من هذا، وأخرى بآخر، وثالثة بثالث،.. وهلم جرًّا.. ألم

تقرءوا قول الله تعالى: ﴿ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ  ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾ [التوبة: ١٢٢] ؟!!


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.