تعرف على المفهوم المنضبط للبلاغة
بقلم / محمد صقر
كذلك قد يكره اللهُ تعالى عبدَه الغني وهو غير مختال، وينفق ولا يمنُّ؛ وذلك لأنه اكتسب ماله من حرام؛ فلم يقبل صدقته لأن الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا، ويعذبُه بكسبه، ولا يستهان بهذه الحال، فهي إن لم تكن نفس حال المرابي التي أطلنا الوقوف حيالها؛ فإنها قريبة جدًّا منها.
وإذن يكون عندنا أربع حالات أخرى لمن لا يحبهم الله D -نعوذ به سبحانه من ذلك-:
الحال الأولى: الفقير المختال، وهو أكثر بغضًا إلى الله تعالى من الغني المختال.
والثانية: الغني البخيل بماله.
والثالثة: الغني المنان بصدقته.
والرابعة: الغني الظالم بمنع الحقوق التي في ماله، أو بأخذ مالِ غيرِهِ ربًا أو غشًّا، أو بغير ذلك من وجوه الكسب الحرام.
سادسًا: التشدق والتفيْهق؛ خاصة من البليغ:
عن عبد الله بن عمرو L، أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة»([1])، وعند أبي داود وغيره: «تخلل الباقرة بلسانها»(2) بدل «كما تتخلل البقرة». وعن سعد بن أبي وقاص I مرفوعًا: «سيكون قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقرة من الأرض»([2]).
قال ابن الأثير: هو الذي يَتَشَدَّق في الكلام ويُفَخِّم به لسَانه، ويَلُفُّه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفًّا([3]). وقال في «عون المعبود»: باب ما جاء في التشدق في الكلام؛ أي: التوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز، وقيل: المتشدق: المتكلف في الكلام فيلوي به شدقيه، والشدق جانب الفم.
و«البليغ»؛ أي: المبالغ في فصاحة الكلام وبلاغته، و«الذي يتخلل بلسانه»؛ أي: يأكل بلسانه، أو يدير لسانه حول أسنانه مبالغة في إظهار بلاغته، و«تخلل الباقرة بلسانها»؛ أي: البقرة، كأنه أدخل التاء فيها على أنه واحد من الجنس كالبقرة من البقر، واستعمالها مع التاء قليل؛ قاله القارئ، وفي «القاموس»: باقر وبقير وبيقور وباقور وباقورة أسماء للجمع.
وخص البقرة؛ لأن جميع البهائم تأخذ النبات بأسنانها وهي تجمع بلسانها، وأما مَن بلاغته خَلْقية فغير مبغوض، كذا في «السراج المنير»([4]).
وقال -في «فيض القدير»-: «البليغ من الرجال»؛ أي: المظهر للتفصح تيهًا على الغير وتفاصحًا واستعلاءً، ووسيلة إلى الاقتدار على تصغير عظيم أو تعظيم حقير، أو بقصد تعجيز غيره، أو تزيين الباطل في صورة الحق أو عكسه، أو إجلال الحكام له ووجاهته وقبول شفاعته؛ فلا ينافي كون الجمال في اللسان، ولا أن المروءة في البيان، ولا أنه زينةٌ من زينة الدنيا وبهاءٌ من بهائها، ولا يناقض هذا ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: ٣، ٤]؛ لأن جعله من نعم الوهاب آية أن موضع البغض ما كان على جهة الإعجاب والتعاظم؛ فمن فهم تناقض الخبر والآية فقد وهِم، وإلى ذلك المعنى المراد يشير قوله: «الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة» جماعة البقر، «بلسانها».
أي: الذي يتشدق بلسانه كما تتشدق البقرة، ووجه الشبه إدارة لسانه حول أسنانه وفمه حال التكلم، كما تفعل البقرة بلسانها حال الأكل، وخص البقرة من بين البهائم؛ لأن سائرها تأخذ النبات بأسنانها والبقرة لا تحتشُّ إلا بلسانها، ذكره جمع أخذًا من قول التُّورِبِشْتِي: ضرب للمعنى مثلًا يشاهده الراؤون من حال البقرة؛ ليكون أثبت في الضمائر، وذلك أن كل دابة تأخذ النبات بأسنانها والبقرة بلسانها
يضرب بها المثل؛ لأنهم كانوا في مغزاهم كالبقرة التي لا تستطيع أن تميز في رعيها بين الرطب والشوك، والحلو والمر؛ بل تلف الكل بلسانها لفًّا، فكذا هؤلاء لا يميزون في مأكلهم بين الحلال والحرام، ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة: ٤٢]، وقال القاضي: شبه إدارة لسانه حول الأسنان والفم حال التكلم تفاصحًا بما يفعل البقر..
قال في الأذكار: فيكره التقعير في الكلام بالتشدق، وتكلف السجع والفصاحة، والتصنع بالمقامات التي يعتادها المتفاصحون، وزخارف القول؛ فكله من التكلف المذموم، وكذا تحري دقائق الإعراب ووحشي اللغة حال مخاطبة العوام؛ قال بعض العارفين: لا تقاوم فصاحة الذات إعراب الكلمات، ألا ترى كيف جعل الله موسى أفضل من أخيه -عليهما السلام- لفصاحة ذاته، وكان هارون S أفصح منه في نطقه وبلاغته، و﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، ولله در القائل:
سر الفصاحة كامن في المعدن لخصائص الأرواح لا للألسن#تنسيق شعر ع#
وقال: يا من أعرب فما أغرب، وعبر فما غبر، وأثار المغنى وما أنار المعنى، هل الجِنان لمن أصلح الجَنان أم لمن أتى بالإغراب في الإعراب؟ وقال بعضهم:
لسانٌ فصيحٌ معرِبٌ في كلامه فيا ليته في موقف الحشر يسلمُ وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقًى ضر ذا تقوى لسانٌ معجَّمُ([5])#تنسيق شعر#
المفهوم المنضبط للبلاغة:
البلاغة -عند المتقدمين- أن يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في جَنانه، أو إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ، أو الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضمار في الكلام، أو قليل لا يبهم وكثير لا يسأم، أو إجمال اللفظ واتساع المعنى، أو تقليل اللفظ وتكثير المعنى، أو حسن الإيجاز وإصابة الحقيقة والمجاز، أو سهولة اللفظ مع البديهة، أو لمحة دالة، أو كلمة تكشف البغية، أو الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطأ، أو النطق في موضعه والسكوت في موضعه، أو معرفة الفصل والوصل، أو الكلام الدال أوله على آخره وعكسه أقوال، وفي عرف أهل المعاني والبيان مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع الفصاحة؛ وهي خلوه عن التعقيد([6]).
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.