الملحد فِي الحرم والمبتغي في الإِسلام.. الخِيَانَة و«الخَوَّانِيَّة» .. المانع السادس عشر من محبَّة اللهِ عبْدًا

الملحد فِي الحرم والمبتغي في الإِسلام

المانع السادسَ عشَر من محبَّة اللهِ عبْدًا

ثلاثةُ أعمالٍ من أمر الجاهلية

المُلْحِد فِي الْحَرَمِ، والمُبْتَغي فِي الإِسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّة،

والمُطَّلِبُ دَم امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهرِيقَه

(1) المُلْحِد فِي الْحَرَمِ:

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى الله ثَلَاثَةٌ؛ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ»([1]).

أصل الملحد هو المائل عن الحق، والإلحاد العدول عن القصد، واستشكل بأن مرتكب الصغيرة مائل عن الحق، والجواب أن هذه الصيغة في العرف مستعملة للخارج عن الدين؛ فإذا وصف به من ارتكب معصية كان في ذلك إشارة إلى عظمها، وقيل: إيراده بالجملة الاسمية مشعر بثبوت الصفة، ثم التنكير للتعظيم؛ فيكون ذلك إشارة إلى عظم الذنب.. وأخرج الثوري في «تفسيره» عن السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: «ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، إلا أن رجلًا لو هم بعدن أبين أن يقتل رجلًا بالبيت الحرام إلا أذاقه الله من عذاب أليم»‏، وهذا سند صحيح.

وقد ذكر شعبة أن السدي رفعه لهم، وكان شعبة يرويه عنه موقوفًا؛ أخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن شعبة، وأخرجه الطبري من طريق أسباط بن نصر عن السدي موقوفًا، وظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره، وهو مشكل؛ فيتعين أن المراد بالإلحاد فعل الكبيرة، وقد يؤخذ ذلك من سياق الآية؛ فإن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: ٢٥] الآية، يفيد ثبوت الإلحاد ودوامه، والتنوين للتعظيم؛ أي: من يكون إلحاده عظيمًا، والله أعلم([2]).

(2) المُبْتَغي فِي الإِسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّة:

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى الله ثَلَاثَةٌ»، وذكر منهم: «وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»([3]).

«‏ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية‏»؛‏ أي: يكون له الحق عند شخص فيطلبه من غيره ممن لا يكون له فيه مشاركة؛ كوالده أو ولده أو قريبه، وقيل: المراد من يريد بقاء سيرة الجاهلية أو إشاعتها أو تنفيذها. وسنة الجاهلية اسم جنس يعم جميع ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه من أخذ الجار بجاره والحليف بحليفه ونحو ذلك، ويلتحق بذلك ما كانوا يعتقدونه.

والمراد منه ما جاء الإسلام بتركه؛ كالطيرة والكهانة وغير ذلك، وقد أخرج الطبراني والدارقطني من حديث أبي شريح، رفعه: «إن أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله، أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام»؛‏ فيمكن أن يفسر به سنة الجاهلية في هذا الحديث([4]).

(3) المُطَّلِبُ دَم امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهرِيقَه:

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى الله ثَلَاثَةٌ»، وذكر منهم: «وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ»([5]).

‏«‏ومطَّلب‏» -بالتشديد- مفتعل من الطلب؛ فأبدلت التاء طاءً وأدغمت، والمراد: من يبالغ في الطلب. وقال الكرماني‏:‏ المعنى: المتكلف للطلب، والمراد الطلب المترتب عليه المطلوب لا مجرد الطلب، أو ذكر الطلب ليلزم الزجر في الفعل بطريق الأولى‏. وقوله: «‏بغير حق»‏: احتراز عمن يقع له مثل ذلك لكن بحقٍّ؛ كطلب القصاص مثلًا‏. وقوله: «‏ليهريق»‏ -بفتح الهاء، ويجوز إسكانها- وقد تمسك به من قال: إن العزم المصمم يؤاخذ به([6]).

خلاصة هذا المانع:

قال الحافظ T: وقفت لهذا الحديث على سبب؛ فقرأت في «‏كتاب مكة» لعمر بن شبة‏ من طريق عمرو بن دينار عن الزهري عن عطاء بن يزيد، قال‏:‏ قتل رجل بالمزدلفة؛ يعني في غزوة الفتح؛ فذكر القصة، وفيها أن النبي ﷺ قال: «وما أعلم أحدًا أعتى على الله من ثلاثة‏:‏ رجل قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحل في الجاهلية»،‏ ومن طريق مسعر عن عمرو بن مرة عن الزهري، ولفظه: «إن أجرأ الناس على الله»‏ فذكر نحوه، وقال فيه: «وطلب بذحول الجاهلية»([7]).

وقال: قال المهلب وغيره‏:‏ المراد بهؤلاء الثلاثة أنهم أبغض أهل المعاصي إلى الله، فهو كقوله: ‏«‏أكبر الكبائر»،‏ وإلا فالشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي([8]).

خلاصة الباب الثاني

موانع حصول محبَّة الله عِبادًا

1- المانع الأول: الكفر، وخلاصته:

عموم الكفر؛ أيًّا كان نوعه وشكله، وهو مقتضى آية الروم.

كفر التولي والإعراض عن طاعة الله D ورسوله ﷺ؛ كما في آية آل عمران.

استحلال الرِّبَا، وهو مقتضى آيات سورة البقرة.

 القتل غدرًا وخيانة بعد إعطاء الأمان، وهو مقتضى آية الحج. ويجب الاحتراز من كفر النعمة؛ لأنه مما يمكن أن تعنيه آية الحج، كما قاله بعض علماء الإسلام. والله أعلم.

الحلف بغير الله تعالى.

 المانع الثاني: الخِيَانَة و«الخَوَّانِيَّة»، وخلاصتهما:

أن هاتين الصفتين تأتيان بمعنيين اثنين:

المعنى الأول: قتل المعاهد والآمن والمستأمن، ومن في معناهم ممن حرم الله دماءهم.

والمعنى الثاني: اقتراف الكبائر؛ كالسرقة، واتهام البريء بها؛ خاصة إذا تكررت وتطوَّرت.

غير أن هذين -والله أعلم- لا يكونان مانعين من محبته تعالى إلا إذا لم يتب فاعلهما، بحيث أصبحا له ديدنًا وعادة؛ مما ينذر بسوء الخاتمة، أما لو تاب وأقلع وندم؛ فإن باب التوبة مفتوح.

3- المانع الثالث: «الأثِيمِيَّة»، وخلاصتها:

*) الكفر أيًّا كان نوعه، وخاصة الكفر الأكبر.

*) الخيانة أيًّا كان نوعها، وخاصة إذا كانت صفةً ملازمة تتكرر ممن يأتيها، أو كانت خيانة في أمر كبير.

*) استحلال الربا وأكله والتعامل به، وخاصة إذا أصرَّ المرابي عليه وزيَّنه لغيره.

*) اقتراف الكبائر، وخاصة إذا اتهم بريئًا بها وبسوء فعاله هو.

*) النفاق أيًّا كان نوعه، وخاصة إذا كان نفاقًا أكبر.

*) الأثيمية كصفة لازمة، وليس مجرد الإثم كحدَثٍ عارض، وخاصة إذا كان الأثيم منهمكًا في آثامه مصرًّا عليها، لا يأبه بالزواجر. والله أعلم بالحق.

4- المانع الرابع: الاخْتِيَالُ والفَخْرُ/ «الفَخُورِيَّة» (خاصة: اختيال الفقير، بخل للمكثر، البخل مع المن، التشدق والتفاصح)، وخلاصة ذلك:

*) الكفر بالله تعالى. *) الكفر باليوم الآخر. *) البخل. *) حث الناس على البخل. *) كتمان النعم وإخفاؤها. *) كفر النعمة. *) الرياء. *) الأنس بالشياطين. *) تصعير الخد للناس كبْرًا وعجبًا في ذات النفس واحتقارًا للناس. *) المشي في الأرض مرحًا؛ أي: تبختُرًا وعجبًا. *) القنوط من رحمة الله. *) البطر بأنعم الله. *) الاختيال في البغي وفي الفخر. *) الفقير المختال أكثر بغضًا إلى الله تعالى. *) بخل الغني خاصة. *) المن بالصدقة. *) ظلم الغني بمنع الحقوق التي في ماله، أو بأخذ مال غيره ربًا أو غشًّا أو بغير ذلك من أشكال الكسب الحرام. *) التشدق بالكلام والتفاصح فيه كبْرًا وعنجهية وعجبًا. *) إسبال الإزار، وخاصة في الصلاة.

5- المانع الخامس: الفرح المحرَّم (البطر)، وخلاصته:

أن الاعتدال في هذه المسألة أن يكون متنعمًا شاكرًا للمنعم؛ فلا يهلك نفسه بالجوع والذل والقذارة، ولا يتجبر ويتبختر، وليأكل وينفق ويشكر، ويرى نفسه أقل من المؤمنين من الذين أنعم الله عليهم، وأفضل من الكافرين من الذين أضلهم الله وغضب عليهم، والمسلمون -يا للحسرة- واقعون اليوم في الطرفين المنهي عنهما، ومتنكبون الطريق المأمور بها، وهذا من أقوى أسباب هوانهم على الله وعلى أنفسهم وعلى الناس.

6- المانع السادس: الاستكبار (دفع الحق بالباطل، والجدال بغير علم)، وخلاصته:

*) إنكار المشركين الأنباء المذكورة في سورة النحل.

*) اعتقاد المشركين نكير «إلهكم إله واحد»، وإنكارهم وحدانية الله.

*) استكبارهم على الله.

*) استكبارهم أن يوحدوا الله ويخلعوا ما دونه من الآلهة والأنداد.

*) الاستكبار على المساكين فلا يجلس معهم ولا يجيب دعوتهم، كما فهمه السبطان L.

*) الاستكبار عن عبادة الله، مع إنكار قلوبهم لتوحيده.

*) الفسق المعلن، وهو أصل العصيان كله.

*) الاستكبار عن الاستجابة للأنبياء -عليهم السلام-.

7- المانع السابع: الظلم (وخاصة: الظلم من الحاكم ومن الغني)، وخلاصته:

*) الشرك بالله؛ حيث عبد النصارى المسيح S، وكذلك كل أنواع الكفر والنفاق.

*) أن يظلم الإنسان أخاه الإنسان، بالاعتداء عليه.

*) أن يظلم الإنسان أخاه، بالأخذ زيادة على حقه.

*) حرم الله تعالى الظلم على نفسه، سواء ظلم الصالحين بالانتقاص من ثوابهم، بل ينجز لهم ما وعدهم ويزيدهم من فضله الواسع العظيم، وكذلك هو سبحانه لا يظلم الطالحين بالزيادة لهم في عقابهم.

*) مقاتلة الكافرين أولياء الله (المسلمين).

*) ترك الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته.

*) خصوص ظلم الحاكم الذي هو مناط العدل، وخصوص ظلم الغنيِّ الذي ليس في حاجة لأن يظلم بعد إنعام الله عليه بالغناء، والقدرة على الظلم؛ ابتلاءً منه تعالى له.

8- المانع الثامن: الاعتداء/ العدوان، وخلاصته:

*) الاعتداء على المؤمَّنين، أو المعاهدين، أو غير المعتدين؛ وبخاصة إذا كانوا غافلين وغير متوقعين الاعتداء.

*) الاعتداء على حق الله تعالى في الدعاء؛ إما بقطع الدعاء، أو بالدعاء بما لا يجوز، أو بسوء الأدب في الدعاء، أو بالدعاء على الأنفس

والأولاد والأموال، أو بتعجل الإجابة، أو بعدم العزم، أو باستعجال العقوبة في الدنيا، أو بالموت، أو بالتشدق والدعاء بتفصيلات لا تجوز، أو بالدعاء في الشدة دون الرخاء أو الرخاء دون الشدة، أو بدعاء غير مستحق الدعاء سبحانه.

*) الاعتداء على شرع الله، وذلك بتحريم ما أحل أو بتحليل ما حرم.

*) الخوارج عن الدين؛ أي: الذين كفروا كفرًا صريحًا بخروجهم عليه.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).


(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).


بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.