المظهر الحادي عشر والثاني عشر لمحبة الله تعالى

المظهر الحادي عشر والثاني عشر لمحبة الله تعالى

المظهر الحادي عشر لمحبَّة الله تعالى عبدًا

أن يكونَ مُبْتَلًى

عن محمودِ بنِ لبيد، أنَّ رسول الله ﷺ قال: «إذا أحبَّ الله قومًا ابتلاهم؛ فمن صبَر فلَه الصبْر، ومن جزع فله الجزَع»([1])، وعن أبِي أيوب قال ﷺ: «عِظَمُ الأجر عند عظم المصيبة، وإذا أحبَّ الله قومًا ابتلاهم»([2]).

قال الحافظ: بِشارةٌ عظيمة لكل مؤمن؛ لأنَّ الآدمي لا ينفكُّ غالبًا من ألمٍ بسبب مرض أو همٍّ أو نحو ذلك مما ذكر، وأن الأمراض والأوجاع والآلام بدنية كانت أو قلبية تكفِّر ذنوبَ من تقع له.. وفي حديث ابن مسعود: «ما من مسلِم يصيبُه أذًى إلا حاتَّ اللهُ عنه خطاياه»([3])، وظاهره تعميم جميع الذنوب، لكن الجمهور خصُّوا ذلك بالصغائر؛ لحديث: «الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ؛ كفاراتٌ لما بينهنَّ ما اجتُنِبَت الكبائر»([4])، فحمَلوا المطْلَقات الوارِدة في التكفير على هذا المقيَّد، ويحتَمِل أن يكونَ معنى الأحاديث التي ظاهرُها التعميم أن المذكورات صالحةٌ لتكفير الذنوب؛ فيكفِّر اللهُ بها ما شاء من الذنوب، ويكون كثرة التكفير وقلَّته([5]).

وقال المناوي: «إذا أحبَّ الله عبدًا»؛ أي: أراد به الخير ووفقه([6]) «ابتلاه»: اختبره وامتحنه بنحو مرَضٍ أو همٍّ أو ضِيق؛ «ليسمع تضرُّعَه»([7])؛ أي: تذلُّلَه واستكانته وخضوعه ومبالغته في السؤال؛ ليعطى صفة الجود والكرم جميعًا، فإنهما يطلبانه عند سؤال عبدِه بالإجابة، فإذا دعا قالت الملائكة: صوت معروفٌ، وقال جبريل: يا ربِّ اقض حاجتَه؛ فيقول: دعوا عبدي؛ فإنِّي أحبُّ أن أسمع صوته.

كذا جاء في خبر. قال الغزالي: ولهذا تراهُ يُكثِر ابتلاءَ أوليائه وأصفيائه الذين هم أعزُّ عباده، وإذا رأيتَ اللهَ D يحبِس عنك الدنيا ويكثر عليك الشدائد والبلْوَى؛ فاعلَم أنَّك عزيزٌ عندَه، وأنَّك عندَه بمكانٍ يسلُك بِك طريقَ أوليائه وأصفيائه؛ فإنَّه يراكَ ولا يحتاجُ إلى ذلك، أمَا تسمَع إلى قوله تعالى: ﴿ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾ [الطور: ٤٨]؛ بل اعرف مِنَّتَه عليك فيما يحفَظ عليك من صَلاتك وصلاحِك، ويُكثِّر من أجورِك وثوابك، وينـزلُك منازلَ الأبرار والأخيار والأعزَّة عندَه.

تنبيه: قال العارِف الجيلانِيُّ: التلذُّذ بالبلاء من مقامات العارفين، لكن لا يعطِيه الله لعبدٍ إلا بَعد بذل الجهد في مَرضاته؛ فإن البلاء يكون تارةً في مقابَلة جريمةٍ، وتارة تكفيرًا، وتارةً رفعَ درجاتٍ وتبليغًا للمنازل العليَّة، ولكل منها علامةٌ؛ فعلامةُ الأول عدم الصبْر عند البلاء وكثرة الجزع والشكوى للخلق، وعلامة الثاني الصبْرُ وعدمُ الشكوى والجزع وخفَّة الطاعة على بدنه، وعلامة الثالث الرِّضا والطمأنينة وخفَّة العمل على البدن والقلب([8]).

وقال المناوي أيضًا: «إذا أحبَّ الله عبدًا ابتلاه»، أو المراد هناك المؤمن الكامل، بدليل خبر: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»، أو يُقال: المؤمن إذا ابتُلِي فإنَّه محمولٌ عنه بحسب طاعتِه وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان في قلبِه، حتى يحمل عنه من البلاء ما لو جُعِل شيءٌ منه على غيره عجَز عن حمله، أو أن شدَّةَ محبَّتِه لربِّه الذي ابتلاه تدفع سلطان البلاء عنه حتى يصير عند البلاء مستعذِبًا غيرَ مسخوطٍ، بل يعدُّه من أجلِّ النعم، أو المراد بالبلاء الذنوب

وهو شؤمُ عواقبها؛ فأهل البلاء هم أهل المعاصي وإن صحَّت أبدانهم، وأهل العافية أهل السلامة وإن مرِضوا. ثم هذا كلُّه سَوْقُ الكلام على ما هو المتبادر للأفهام ببادئ النظر من أن المقصود عدمُ الجعل حالَ الحياة، وذهَب بعضُهم إلى تنـزيلِه على ما بعد الموت، وعليه فالمرادُ أنَّ الأرض لا تأكُل بدنَه، ولا ينافيه خبر: «كل ابن آدم يأكله التراب»([9])؛ لأنه خصّ منه عشرة أصناف. قال الراغب: والبَدَن الجسَد؛ لكن البدن يقال اعتبارًا بعظم الجثة، والجسد اعتبارًا باللون، ومنه قيل: امرأة بادِن وبَدِين؛ عظيمةُ الجِسْم([10]).

وقال المناويُّ أيْضًا: «إذا أحبَّ الله قومًا ابتلاهم» بأنواع البلايا حتى يمحِّصَهم من الذنوب ويفرغ قلوبهم من الشغل بالدنيا؛ غيرةً منه عليهم أن يقعوا فيما يضرُّهم في الآخِرة، وجميعُ ما يبتليهم به من ضنْك المعيشة وكدَر الدنيا وتسليط أهلها؛ ليشهَدَ صِدْقهم معه وصبْرهم في المجاهَدَة، قال: ﴿ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [محمد: ٣١]([11]).

أما حديثُ: «إن الله إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه» فقد ضعفه الحافظ العراقيُّ في «تخريج أحاديث الإحياء»، وقد رُوِي بلفظ: «إذا أحبَّ الله عبدًا ألصق به البلاء»، وهو مرسل عن سعيد بن المسيّب([12]).


المظهر الثاني عشرَ لمحبَّةِ اللهِ تعالى عبدًا

أن يكونَ منْشَرِحَ الصدْرِ،

مستَضِيءَ العقْلِ، متَّحِدَ الهمِّ

فهو مظهرٌ مركَّبٌ من ثلاثةِ مظاهر على النحو الآتي:

أولاً- أن يكون منشرِحَ الصدْر:

قال الله تعالى -على لسان نبيِّه موسى S في دعائه ربَّه-: ﴿ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ * ﯝ ﯞ ﯟ﴾ [طه: ٢٥، ٢٦]، وقال عن نبيِّه محمد ﷺ: ﴿ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾ [الشرح: ١].

قال الإمام القرطبي: ﴿ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ﴾؛ أي: وسِّعْه ونوِّره بالإيمان والنُّبُوَّةِ، و﴿ﯝ ﯞ ﯟ﴾؛ أي: سهِّل عليَّ ما أمرتَنِي به من تبليغ الرسالة إلى فرعون([1]).

وقال الإمام السيوطي: عن ابن عباسٍ في قوله: ﴿ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾ قال: شرَحَ اللهُ صدرَه للإسلام، وأخرَج عبْدُ بنُ حُمَيْدٍ وابنُ المنذِر عن الحسن ﴿ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾ قال: مُلِئ حِلْمًا وعِلْمًا([2]).

وقال الإمام البيهقيُّ: السابع والخمسون من شُعَبِ الإيمان وهو باب في حُسْن الخلق: ودخل في هذا كَظم الغيط، ولِين الجانب والتواضع؛ قال الإمام أحمد: ومعنى حُسن الخلق سلامَة النفس نحو الأرفَق الأحمَد من الأفعال، وقد يكون ذلك في ذات الله تعالى، وقد يكونُ فيما بين الناس، وهو في ذات الله D أن يكون العبد منشرِحَ الصدر بأوامر الله ونواهِيه، يفعلُ ما فرض عليه، طيبَ النفس به سلسًا نحوه، وينتهي عما حرَّم عليه واسعًا به غير مُتَضَجِّرٍ منه، ويرغب في نوافل الخير، وترك كثير من المباح لوجه الله تعالى إذا رأى أن تركه أقرب إلى العُبُودَة من فعله، متبَشِّرًا لذلك غير ضجِرٍ منه ولا متعسِّر به.

وهو في المعاملات بين الناس؛ أن يكون سمحًا بحقوقه لا يطالب غيره بها، ويوفي ما يجب لغيرِه عليها منه؛ فإنْ مرض فلم يُعَد أو قدم من سفر فلم يُزَر أو سلَّم فلم يُرَدَّ عليه، أو ضافَ فلم يُكرم، أو شفع فلم يُجَب، أو أحسن فلم يُشكرْ، أو دخل على قومٍ فلم يُمكَّن، أو تكلم فلم يُنصت له، أو استأذَن على صديق فلم يُؤذَن له، أو خطب فلم يُزوَّج، أو استمهل الدَّين فلم يُمهَل، أو استنقص فلم ينقص وما أشبَه ذلك - لم يغضَب ولم يعاقِب ولم يتنكَّرْ من حاله حالٌ، ولم يستشعر في نفسه أنه قد جُفي وأوحش، وأنه يقال كل ذلك إذا وجد السبيل إليه بمثله، بل يضمّ أنه لا يعتد بشيء من ذلك،

ويقابل كلًّا منه بما هو أحسن وأفضل وأقرب إلى البر والتقوى وأشبه بما يُحمَد ويُرضَى، ثم يكون في اتِّقاء ما يكون عليه كَهُوَ في حظِّ ما يكون له؛ فإذا مرِض أخوه المسلمُ عاده، وإن جاءه في شفاعةٍ، وإن استمهله في قضاء دين أمهله، وإن احتاج منه إلى معونةٍ أعانه، وإن استسمحَه في بيعٍ سمَح له، ولا ينظر إلى أن الذي عامله كيف كانت معاملته إيَّاه فيما خلا أو كيف يعامل الناس؛ إنما يتخذ الأحسن إمامًا لنفسه فينحُو نحوه، ولا يخالفه، والخلق الحسن قد يكون غريزةً وقد يكون مكتسبًا،

وإنما يصح اكتسابه لمن كان في غريزته أصلٌ منه؛ فهو يضم ما اكتسابُه إليه ما يضمُّه، ومعلوم في العادات أن ذا الرأي بمجالسته أُولِي الأحلام والنُّهَى يزدادُ رأيًا، وإنَّ العالم يزداد بمخالطة العلماء علمًا، وكذلك الصالح والعاقل بمجالسة الصلحَاء والعقلاء؛ فلا ينكر أن يكون ذو الخلق الجميل يزداد حسَن الخلق بمجالسة أولي الأخلاق الحسَنة([3]).


(1)  «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3)«الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5)أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8)«إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9)«الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10)«أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(11)      «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.
(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.

بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.