الفساد والإفساد والخروج على الدين .. موانع محبة الله عبدًا.
معنى الفساد والإفساد، والفرق بينهما:
1- الفساد: هو التلف والعطب، والاضطراب والخلل، والجدب والقحط.. قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: ٤١].. قال ابن كثير -في تفسيرها-: أي: بان النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي، وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة([1]).
وقال البيضاوي: المراد بالفساد الجدب وكثرة الحرق والغرق، ومحق البركات، وكثرة المضار، بشؤم معاصي الناس أو بكسبهم إيَّاه([2]).
والفساد: إلحاق الضرر.. قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: ٣٣] الآية، وقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: ٦٤].. قال الصابوني -في تفسيرها-: أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله، ويسعون لإثارة الفتن بين المسلمين([3]).
والفساد مصدر الفعل الثلاثي اللازم «فسد»، ومن معانيه: أنتن وعطب للحم ونحوه، وبطل للعقد ونحوه، وجاوز العقل والحكمة للإنسان العاقل، وفسدت الأمور: اضطربت وأدركها الخلل. واسم الفاعل من فسد «فاسد»، والمبالغة منه «فسيد»([4]).
2- أما الإفساد: فمصدر الفعل الرباعي «أفسد» الذي يأتي لازمًا بمعنى «فسد».. يقال: أفسد الرجل؛ أي فسد، كما يأتي -في الغالب- متعدِّيًا لمفعولٍ واحد.. يقال: أفسد الرجل الشيء: جعله فاسدًا([5]). واسم الفاعل منه «مُفْسِد».
وإذن لا فرق بين الفساد والإفساد في بعض معاني الثاني، وبينهما الفرق الذي بين الفعل اللازم والفعل المتعدي في باقي المعاني.
3- وفي معناهما أيضًا «المَفْسَدَةُ»؛ ومعناها الضرر وما يؤدي إلى فساد غيره.. قال أبو العتاهية:
إن الفراغ والشباب والجدَة مفسدةٌ للمرء أيّ مفسدة([6]) #تنسيق شعر#
وجمع مفسدة مفاسد، وهي في اصطلاح الأصوليين ضد المصالح والمنافع. فالفساد والمفسدة ضد المصلحة والمنفعة، والإفساد ضد الإصلاح والنفع.. قال تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: ٥٦].
أولاً- عامةُ الإفساد، وخاصةً إهلاك الحرث والنسل:
قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ *وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: ٢٠٤-٢٠٦].
فقد خلق الله الجن والإنس لعبادته وحده؛ قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: ٥٦]، وسخر الله الأرض وما فيها وما عليها وما حولها لعباده حتى تتسنى لهم العبادة على الوجه المطلوب.. قال تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: ٣٧].
ومن ثم يُعد تدمير الأرض أو شيء منها لغير فائدة أكبر من الذي يدمَّر جرمًا كبيرًا.. قال تعالى: ﴿وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: ٨٥].
ومعنى ﴿ﭾ ﭿ﴾: ذو جدال إذا كلمك وراجعك، وشديد القسوة في معصية الله والجدل بالباطل، وإذا شئت رأيته عالم اللسان جاهل العمل.. يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة. أو هو غير مستقيم الخصومة ولكنه معوجُّها. أو هو كاذب في قوله.
والسعي -ههنا- هو القصد؛ كما قال تعالى إخبارًا عن فرعون: ﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ *فَحَشَرَ فَنَادَىٰ*فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ [النازعات: ٢٢-٢٤]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 9]؛ أي: اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة؛ فإن السعي الحثيث إلى الصلاة منهيٌّ عنه بالسنة النبوية.. «إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وَأْتوها وعليكم السكينة والوقار»([7]).
فهذا المنافق ليس له همةٌ إلا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث، وهو محلُّ نماء الزروع والثمار. والنسل، وهو نتاج الحيوانات؛ اللذين لا قوام للناس إلا بهما. ﴿ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ﴾؛ أي: لا يحب من هذه صفته، ولا من يصدر منه ذلك.
﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ﴾؛ أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتق الله وانزع عن قولك وفعلك وارجع إلى الحق. امتنع وأبى وأخذته الحميَّة والغضب بالإثم؛ أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام.
﴿ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ﴾: أي هي كافيته عقوبة في ذلك([8]).
ومن أقوال المفسرين في آيات البقرة هذه:
1- هذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين.
2- قال بعضهم: نزلت في الأخنس بن شريق، قدم على رسول الله ﷺ فزعم أنه يريد الإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، ثم خرج فأفسد أموالًا من أموال المسلمين.. قاله السدي، وفيه نزلت: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة: ١]، ونزلت فيه: ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾ إلى ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ*هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ*مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم: 10-13].
3- وقال آخرون: بل نزل ذلك في قومٍ من أهل النفاق تكلَّموا في السَّرِيَّة التي أصيبت لرسول الله ﷺ بالرجيع.. قاله سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس، قال: لمَّا أصيبت هذه السرية أصحاب خبيب بالرجيع بين مكة والمدينة، فقال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا! لا هم قعدوا في بيوتهم ولا هم أدَّوْا رسالة صاحبهم! فأنزل الله D في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر من الشهادة والخير من الله.
4- وقال آخرون: بل عنى بذلك جميع المنافقين، وعنى بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ [البقرة: ٢٠٤] اختلاف سريرته وعلانيته([1]).
5- وقيل: بل ذلك عامٌّ في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم، وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وغير واحد، وهو الصحيح.
6- وعن القرظي عن نوف -وهو البكالي- وكان ممن يقرأ الكتب، قال: إنِّي لأجدُ صفةَ ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنـزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدِّين.. ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر.. يلبسون للناس مسوك الضأن وقلوبهم قلوب الذئاب.. يقول الله تعالى: فعليَّ يجترئون وبي يغترون.. حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيرانًا. قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ [البقرة: ٢٠٤] الآية.
7- وعن أبي معشر نجيح، قال: سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي، فقال سعيد: إن في بعض الكتب: إن عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، قال الله تعالى: عليَّ تجترئون وبي تغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيرانًا؛ فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله. فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله: ﴿ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ الآية؛ فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية؟ فقال محمد بن كعب: إن الآية تنـزل في الرجل ثم تكون عامة بعدُ. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح.
8- وفي البخاري عن عائشة ترفعه: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»([2]).
9- وقوله: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: ٢٠٥]؛ أي: هو أعوج المقال سيئ الفعال، فذلك قوله وهذا فعله.. كلامه كذب واعتقاده فاسد وأفعاله قبيحة.
10- وقال مجاهد: إذا سعى في الأرض إفسادًا؛ منع الله القطر، فهلك الحرث والنسل([3]).
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).