الفساد بمعنى البغي والجحود ... مانع من موانع محبة الله عبدًا

الفساد بمعنى البغي والجحود

رابعًا:  الفساد بمعنى البغي، والجحود، والانشغال بالنِّعم عن المنعم:

يقول الله تعالى -عن قارون لعنه الله-:﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: ٧٧].

وقد وردت تلك الآية في سياق قصة قارون الذي يضرب به المثل في الكفر، مثله مثل فرعون وهامان والنمروذ وأبي جهل وأبي لهب، وأُبيّ وأمية ابني خلف، والوليد بن المغيرة وغيرهم، وإنما كان كفر قارون من نوع الطغيان على عباد الله وجحود نعمه عليه، حتى صار من أكثر المتبجحين بنسبة النعم إلى أنفسهم، حتى ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص: ٧٨]، وهذا من أجلى الأمثلة على كافر النعمة.

وقد تعددت جرائم قارون على النحو الآتي:

1- البغي على بني قومه، خاصة وأنهم كانوا مساكين يسومهم فرعون سوء العذاب، فلم يرحَمْهم قارون؛ فجمع بذلك بين قطيعة الرحم وغمط الناس.. قال تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: ٧٦]. ولقد علمنا أن البغي وحده مانع من محبَّة الله تعالى، كما في «مانع الاعتداء».

2- الفرح والبطر والاغترار بالمال.. قال تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: ٧٦]. وعلمنا أن الفرح -بهذا المعنى- مانع من محبته تعالى عبدَه.

3- نسيان الآخرة وعدم العمل لها، والانكباب على الدنيا.. يُطلِق لنفسه عنان الشهوة المحرمة، ويظلم الناس، وينسى حق الله من الشكر، وحق الناس من الإحسان إليهم.. قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: ٧٧].

4- جحود النعمة وكفرُها، ونسبتها إلى نفسه من دون الله.. قال تعالى: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: ٧٨].

5- عدم اعتباره بالهالكين من قبله.. ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص: ٧٨].

6- الاشتغال بالنِّعم عن المنعم سبحانه، وفتنة الناس من ضعاف النفوس بهيئته وزينته.. قال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ*وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: ٧٩، ٨٠].

فهذه بعض جرائم قارون التي حكاها القرآن، ولعلها المفاسد المقصودة بقوله تعالى: ﴿ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ﴾، وبقوله تعالى: ﴿ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾ كما مرَّ، ولا يُستبعد على مثل قارون أن يأتي من المفاسد أكثر من ذلك؛ كأن يصدَّ عن سبيل الله، ويشيع الفاحشة، وغير ذلك، غير أن ما حكيناه هو ما حكاه القرآن الكريم عنه.

لقد كان عقاب قارون -لعنه الله- أن خسَفَ اللهُ به وبداره الأرض، وجعله عبرةً لمن يعتبر من قومه ومَن بعدهم.. ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ*وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ*تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: ٨١-٨٣].

ويعنُّ لي أن سبب خسفِ الله به وبداره الأرض ربما يكون العُجْب، وهو من أذمِّ معاني الفرح المذموم؛ لحديث رسول الله ﷺ: «خرج رجل ممن كان قبلكم في حلّة له يختال فيها؛ فأمر الله الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها -أو قال: يتلجلج فيها- إلى يوم القيامة»([1]).

وإذن يكون البغي؛ ومن أنواعه: التكبُّر على الخلق وغمطُهم، ومنع حقوقهم التي افترضها الله لهم في المال، والفرح المحرم؛ ومن أنواعه: بطر النعمة، والانشغال بها عن منعمها D، والعجب بالنفس؛ كل هذا فساد لا يحبه الله، وتمنع محبته تعالى من يأتيها أو بعضَها.

خلاصة هذا المانع:

وبذا يكون الفساد المانع من محبة الله تعالى من يأتيه -أعاذنا الله وإيَّاك من ذلك- قد جاء في الشرع الحنيف بهذه المعاني الخمسة:

1- إهلاك الحرث والنسل.

2- السعي بالفتنة بين المسلمين.

3- الخروج على الدين بالكفر به وقتال أهله.

4- البغيُ على عباد الله.

5- كفر النعم، والانشغال بها عن منعمهما

6- الفرح المحرَّم. والله أعلى وأعلم وأعز وأكرم.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


بقلم / محمد صقر 


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.