الفرق بين الكفَّار والأثيم .. حكم من قتل غدرًا

القتل غدرًا

بقلم / محمد صقر

الفرق بين الكفَّار والأثيم .. 

هذا أيضًا يدل على أن «كَفَّارًا» تعني زيادة الكفر؛ أي: شدته؛ أي: الكفر الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار. وقال الإمام القرطبي -عند قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ . [البقرة: ٢٧٥]-: معناه عند جميع المتأوِّلين في الكُفَّار، و  فلذلك قال ﷺ: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»([1]). لكن قد يؤخذ العصاة في الربا بطرفٍ من وعيد هذه الآية([2]).

(2) «الأثيم»([3]): «أثيم» هي الأخرى مفرد على المبالغة في الإثم والزيادة منه، بحسب صيغة المبالغة «فَعِيل»، فما يقال في «كَفَّار» يقال في «أثيم»؛ فهي أيضًا مبالغة في الإثم وزيادة فيه، وتلزم صاحبها كما لا يلزمه اسم الفاعل «آثم»، وتمنع من محبَّة الله تعالى عبده كما تمنع «كفَّار»، وذلك موضوع المانع الثالث من محبة الله تعالى.

(3) الفرق بين «الكفَّار» و«الأثيم»: قال القرطبي: ووصف كفار بأثيم مبالغة؛ من حيث اختلف اللفظان، وقيل لإزالة الاشتراك في «كفَّار»؛ إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض.. قاله ابن فورك([4]).

وقال ابن كثير: أي: لا يحب كَفورَ القلب أثيمَ القول والفعل، ولابد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابِيَ لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح؛ فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة؛ فهو جَحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم يأكل أموال الناس بالباطل([5]).

ولا يعني -والله أعلم- أنه يشترط الصفتان في المرء؛ أي «الكَفَّارية» و«الأثيميَّة»، حتى يبغضه الله تعالى؛ إذ الكفر وحده مانع من محبَّة الله تعالى عبده كما سبق، و«الأثيمية» -ولا نقول: الإثم حيث قد يكون لممًا- وحدها مانعة من محبته تعالى عبده كما سيأتي. فلا يلزم اجتماعهما في شخص حتى لا يحبه الله تعالى، والله أعلم.

رابعًا- كفر القاتلِ غدرًا وخيانة، وكفر النعمة:

يقول تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ [الحج: ٣٨]. قال القرطبي -في سبب نزول هذه الآية-: روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغدر ويحتال([6]).

وقال بدر الدين العيني: إن المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة، فشكوا إلى النبي وسألوه أن يغتالوا من أمكنهم منهم ويغدروا به، فنهوا عن ذلك وأمروا بالصبر إلى أن هاجر النبي، فنزلت: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج: ٣٩] الآية؛ فأباح الله قتالهم، فكان إباحة القتال مع الهجرة التي هي سبب النصرة والغلبة وظهور الإسلام([7]).

وقال بعض العلماء: إن سورة الحج مكية إلا ثلاث آيات من أول قوله تعالى: ﴿ هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ [الحج: ١٩]، وليست هذه الآية من الآيات الثلاث المدنيَّة، وقد وردت في سياق النهي عن القتال قبل الإذن به في الآية التي تليها مباشرة، وهي قوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩] ([8]).

ومعلوم أن الجهاد في سبيل الله مر بثلاث مراحل تشريعية([9]).. الأولى: حظره قبل آية الإذن هذه، والثانية: الإذن به قبل فرضه كما في هذه الآية، والثالثة: فرضه على الكفاية أو على التعيين على تفصيل ليس هاهنا مكانه.

فهل في سورة الحج آياتٌ أخرى مدنية غير الآيات الثلاث المشار إليها؟ أم أن الجهاد قد أُذِن به قبل الهجرة؟ إنه يستحيل هنا الجمع بين القولين.. فلابد أن أحدهما صحيح والآخر خطأ، ولكن اتفق العلماء على أن الجهاد لم يؤذن به في مكة بدليل آيات الصفح الكثيرة في السور النازلة أوَّلًا بالمدينة، كالبقرة وغيرها؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ *وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: ١٠٩-١١٠].

وقوله تعالى: ﴿  فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: ١٣]، قال ابن تيمية: وسورة المائدة مدنية بالإجماع([10])، وقال أيضًا عن سورة الحج: وسورة الحج بعضها مكي بلا شك، وأكثرها أو باقيها مدني متقدم([11])؛ فإذن القول بأن سورة الحج مكية إلا ثلاثًا ليس صحيحًا.

يقول السعدي عند آية الحج هذه: كان المسلمون في أول الإسلام ممنوعين من قتال الكفار، ومأمورين بالصبر عليهم لحكمة إلهية؛ فلما هاجروا إلى المدينة وأوذوا، وحصل لهم منعة وقوة؛ أذن لهم بالقتال، كما قال تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ﴾ يفهم منه أنهم كانوا قبلُ ممنوعين؛ فأَذن الله لهم بقتال الذين يقاتلونهم([12]).

خائن في أمانته التي حمَّله الله إيَّاها؛ فيبخس حقوق الله عليه ويخونها، ويخون الخلق.. لنعم الله؛ يوالي اللهُ عليه الإحسان ويتوالى منه الكفر والعصيان؛ فهذا لا يحبه الله، بل يبغضه ويمقتُه وسيجازيه على كفره وخيانته، ومفهوم الآية أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته شكور لمولاه([13]).

ويقول ابن كثير -عن زيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم-: هذه أول آية نزلت في الجهاد. واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة -أي سورة الحج- مدنية. كما روى ابن كثير سببًا آخر لنـزول الآية -عن ابن جرير الطبري في تفسيره ([14])- عن ابن عباس قال: لما أُخرِج النبي ﷺ من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلِكُنَّ. قال ابن عباس: فأنزل الله D: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: ٣٩] .. قال أبو بكر : فعرفت أنه سيكون قتال([1]). قال: وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ [الحج: ٣٨]؛ أي: لا يحب من عباده من اتصف بهذا، وهو الخيانة في العهود والمواثيق، لا يفي بما قال، والكفر: الجحد للنعم فلا يعترف بها([2]).

الأول: أن «الخوَّانيَّة» و«الكَفُورية» هاتين في حق المؤمنين إن غدروا بالمشركين فقتلوا من أمكنهم منهم؛ كما يقول القرطبي والعيني.

الثاني: أن «الخوانية» و«الكفورية» في حق المؤمنين إن هم خانوا أمانتهم التي حملوها من الإيمان بالله تعالى بحقوقه وحقوق الخلق، وأن أعظمهم في المحافظة على هذه الحقوق أعظمهم في دفاع الله تعالى عنه؛ فمستقِلٌّ من هذا وذاك ومستكثِرٌ منهما؛ كما يقول العلامة السعدي.

الثالث -وهو أشهرها-: أن «الخوانية» و«الكفورية» في حق كل أحدٍ؛ أي أنَّ كل خوان وكل كفور جاحد النعمة لا يحبه الله؛ كما يقول ابن كثير وغيره.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).


(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).


(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).


(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.


(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.


(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.


(13) «الأربعين النووية» لأبي زكريا محيي الدين النووي (المتوفى 676هـ) تحقيق: قصي محمد نورس الحلاق وأنور بن أبي بكر الشيخي ط1 دار المنهاج للنشر والتوزيع (ط. ت).


(14) «إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم» لأبي السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى 982هـ) ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت (د. ت).


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.