الفرق بين البؤس والتبائس والبطر
بقلم /محمد صقر
المانع الخامس من محبَّة اللهِ عبْدًا
الفرق بين البؤس والتبائس والبطر
معاني الفرح، والمباح منه والمحرَّم:
الفَرَحُ نقيض الحُزْن، وهو أَن يجد في قلبه خفَّة. والفَرَح أيضًا البَطَر، وفي قوله تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: ٧٦]، قال الزجاج: معناه -والله أعلم-: لا تفرح بكثرة المال في الدنيا؛ لأن الذي يفرح بالمال يصرفه في غير أمر الآخرة، وقيل: لا تفرح: لا تَأْشَر، والمعنيان متقاربان؛ لأَنه إذا سُرَّ ربما أَشِرَ. والمِفْراح الذي يفرح كلما سرَّه الدهر، وهو الكثير الفرح([1]).
والفرح انشراح الصدر بلذَّةٍ عاجلة، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية؛ فلهذا قال تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾[الحديد: ٢٣]،
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ ادُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: ٢٦]،
﴿ ذَٰلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [غافر: ٧٥]،
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: ٤٤]،
﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [غافر: ٨٣]،
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: ٧٦]،
ولم يرخص في الفرح إلا في قوله: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
[يونس: ٥٨]، ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [الروم: ٤].
والمفراح: الكثير الفرح.. قال الشاعر:
ولست بمفراحٍ إذا الخير مسَّنِي ولا جازعٍ من صرْفِهِ المتقلِّبِ([2])#تنسيق شعر#
وشدة الفرح تجاوزه الحد، وهو البطر والأشر؛ كما في قوله: ﴿ ﴾؛ أي: المفرِطِين في الفرح؛ فإن صيغة (فَعِل) صيغة مبالغة، مع الإشارة إلى تعليل النهي؛ فالجملة علَّة للتي قبلها، والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يُفرَح به، وهي تستلزم الإعراض عن غيره؛ فصار النهي عن شدة الفرح رمزًا إلى الإعراض عن الجدِّ والواجب في ذلك([3]).
أولًا- الفرح المحرَّم (البطر):
يقول تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ *وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: ٧٦، ٧٧].
فقد كان قارون ابن عم موسى S وكان يسمى المنوّر من حسن صوته بالتوراة؛ ولكنْ عدوُّ الله نافق كما نافق السامريُّ فأهلكه البغي؛ أي: تجاوز حدَّه في الكِبر والتجبُّر على قومه وهم قوم موسى، وقال بعضهم: كان بغيه عليهم زيادةَ شبْرٍ أخذها في طول ثيابه([4])،
وقال آخرون: كان بغيُه عليهم بكثرة ماله. وآتى اللهُ قارون من كنوز الأموال ما إن مفاتحه([5]) لتُثقِل العصبة؛ وهي الجماعة ما بين العشرة إلى الأربعين إلى الستين، من أولي القوة؛ أي الأشداء.
إذ قال قومه: لا تبغ ولا تبطر فرحًا إن الله لا يحب مِن خَلقِهِ الأشرين البطرين، وقال ابن عباس: المرِحين، وقال مجاهد: المتبذّخين الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. وعنه أيضًا: يعني به البَغي. وعن قتادة: لا تمرح إن الله لا يحب المرحين، وعن مجاهد أيضًا: هو فرح البغي([6]).
وقال الطبري أيضًا: ﴿ذَٰلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [غافر: ٧٥] يعني -تعالى ذكره- هذا الذي فعلنا اليوم بكم أيها القوم من «تعذيبناكم» العذاب الذي أنتم فيه، بفرحكم الذي كنتم تفرحونه في الدنيا بغير ما أُذِن لكم به من الباطل والمعاصي، وبمرحكم فيها، والمرح: هو الأشر والبطر، وعن ابن عباس: الفرح والمرح: الفخر والخيلاء والعمل في الأرض بالخطيئة، وكان ذلك في الشرك، وهو مثل قوله لقارون: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76]، وذلك في الشرك. وعن مجاهد: تبطرون وتأشرون.
وعن السدي: تبطرون([7]). أي: وعظه فيما هو فيه صالحو قومه، فقالوا على سبيل النصح والإرشاد: لا تفرح بما أنت فيه([8]).
وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: ٥٨] قال القرطبي: قال أبو سعيد الخدري وابن عباس L: «فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام»، وعنهما أيضًا: «فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله». وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة: فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن، على العكس من القول الأول. وقيل غير هذا. و﴿بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ﴾ إشارةٌ إلى الفضل والرحمة.
والعرب تأتي بذلك للواحد والاثنين والجمع، والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب، وقد ذم الفرحَ في مواضع؛ كقوله: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: ٧٦]، وقوله: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ۚ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾ [هود: ١٠].
ولكنه مطلَق، فإذا قيد الفرح لم يكن ذمًّا؛ لقوله: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آل عمران: ١٧٠]([9]). والمراد بالفضل من الله سبحانه هو تفضُّله على عباده في الآجل والعاجل بما لا يحيط به الحصر، والرحمة رحمته لهم، على أن كل واحد من الفضل والرحمة سبب مستقل في الفرح، والفرح هو: اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب، وقد ذم الله سبحانه الفرح في مواطن؛ كقوله: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ ﴾([10]).
وقد نقلنا أقوال العلماء في الآية الثانية، وباستعراض أقوالهم في الآيتين نخلص إلى جملة من معاني الفرح المذموم؛ هي:
1- البَطَرُ والأشر والبذخ والمرح. ومعنى البطر: الطُّغْيان عند النِّعْمة وطُولِ الغِنَى، ومنه الحديث: «الكِبْر بَطَر الحقِّ»([11])؛ هو أن يجعل ما جعله الله حقًّا من توحيده وعبادته باطلًا. وقيل: هو أن يتَجبَّر عند الحقِّ فلا يراه حقًّا. وقيل: هو أن يتكبَّر عن الحق فلا يقبله([12]). ومعنى الأشر: البطر، أو هو الشديد منه([13]). ومعنى البذخ: الفَخْر والتَّطَاوُل، والبَاذَخ: العالي([14]). ومعنى المَرَح: شدة الفرح والنشاط([15]).
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.
(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.
(13) «الأربعين النووية» لأبي زكريا محيي الدين النووي (المتوفى 676هـ) تحقيق: قصي محمد نورس الحلاق وأنور بن أبي بكر الشيخي ط1 دار المنهاج للنشر والتوزيع (ط. ت).
(14) «إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم» لأبي السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى 982هـ) ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت (د. ت).
(15) «إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل» لمحمد ناصر الدين الألباني (المتوفى 1420هـ) تحقيق: زهير الشاويش ط2 المكتب الإسلامي - بيروت 1405هـ.