العداوة والإعتداء على الغير .. مانع من موانع محبة الله عبدًا
حول معنى الاعتداء:«الاعتداء» مصدر الفعل الخماسي «اعتدى» المتعدي بعلى وعن، يقال: اعتدى عليه: ظلمه. واعتدى الحق: جاوزه؛ فهنا يأتي لازمًا. ويقال: اعتدى عن الحق، وفوق الحق. وأصل اعتدى «عدا» عدْوًا وعُدُوًّا وتعداءً وعُدوانًا؛ أي جرى، وهو لازم. وأما عدا عليه عدوًا وعدوًّا وعداءً وعِدوانًا -بكسر العين وضمها- فبمعنى: ظلمه، وبمعنى جاوز الحد.
وعدا اللص على الشيء: سرقه، وعدا عليه: وثب، وعدا الأمر: صرفه وشغله وجاوزه، وكذا عدا عنه: جاوزه. وعدى بمعنى خاصم([1]).واعتدى؛ أي جاوز حده، بمعنى حقه أو ملكه، إلى حق وملك غيره، سواء كان الله سبحانه.. قال تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، وأعظم الحدود حدود الله تعالى؛ لأنها فضلًا عن كونها حدودَ وحقوقَ الله تعالى العلي الكبير؛ فإنها قد تتضمن حدود وحقوق عباده، كما قد يكون صاحب الحق مؤمنًا أو كافرًا من الناس، والكل ممنوع الاعتداء عليه في نفسه وماله وعرضه.. إلخ؛ إلا بالحق.
والاعتداء -بهذا المعنى- مثل الظلم؛ وبهذا يكون ضد الاعتدال والعدل والحق؛ وهذه الفضائل الثلاث هي الحد الفاصل بين الإفراط والتفريط في الدين، وقد اعتبرها الإسلام من مبادئه التي أكثر من التأكيد عليها في كل مناسبة دعت إلى ذلك في الأصلين العظيمين القرآن والسنة.أولاً- الاعتداء بمعنى قتال من لم يجب قتاله:قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ*وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ*فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: ١٩٠-١٩٣].
قال السعدي: هذه الآيات تتضمن الأمر بالقتال في سبيل الله، وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة؛ لمَّا قَوِي المسلمون للقتال أمرهم الله به، بعدما كانوا مأمورين بكف أيديهم.
﴿ﯳ ﯴ﴾؛ أي: الذين هم مستعدون لقتالكم؛ وهم المكلَّفون الرجال، غير الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال. والنهي عن الاعتداء يشمل أنواع الاعتداء كلها؛ من قتل من لا يقاتل من النساء والمجانين والأطفال والرهبان ونحوِهم، والتمثيل بالقتلى، وقتل الحيوانات، وقطع الأشجار ونحوها لغير مصلحة تعود للمسلمين. ومن الاعتداء مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها؛ فإن ذلك لا يجوز([2]).
وقال: ﴿ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾؛ أي: فليس عليهم منكم اعتداء، إلا من ظلم منهم؛ فإنه يستحق المعاقبة بقدر ظلمه([3]).وقال الصابوني: وكان هذا -أي عدم الاعتداء- في بدء الدعوة، ثم نسخ بآية براءة: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) [التوبة: ٣٦]، وقيل: نسخ بالآية التي بعدها، وهي قوله: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ﴾([4]).
وقال ابن كثير: قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: ﴿ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾، قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله ﷺ يقاتل من قاتله ويكفُّ عمن كفَّ عنه، حتى نزلت سورة براءة.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال: منسوخة بقوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ٥]. وفي هذا نظر؛ لأن قوله: ﴿ﯳ ﯴ﴾ إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله؛ أي: كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم.
كما قال: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: ٣٦]؛ ولهذا قال في هذه الآية: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: ١٩١]؛ أي: لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما أن همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصًا. وقوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: ١٩٠].
أي: قاتلوا في سبيل الله، لا تعتدوا في ذلك، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي؛ كما قال الحسن البصري: من المثلة والغلول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة؛ كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم؛ ولهذا جاء في «صحيح مسلم» عن بريدة، أن رسول الله ﷺ كان يقول: «اغزوا في سبيل الله.. قاتلوا من كفر بالله.. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع»([5]).وهكذا نلحظ التضارب الواضح بين المفسرين في حكم هذه الآية والعمل بها.
وهذا التضارب يدخل في إطار القضيَّة برمَّتها؛ أعني: فهم المسلمين لفريضة الجهاد؛ التي قلنا ونقلنا أن فهم المسلمين لها ينتابه القصور والاضطراب.أما بخصوص الجزئيَّة التي معنا الآن، وهي من يجب قتاله ومن لا يجب؛ فإننا مع الرأي المنقول عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان والحسن البصري، والذي رجحه ابن كثير. وقد بلور هذا الرأي الشيخ سيد سابق في كتابه «فقه السنة»، فقال: وقد تضمنت هذه الآيات -يشير إلى الآيات (190-193) من سورة البقرة-.
ما يأتي:1- الأمر بقتال الذين يبدؤون بالعدوان ومقاتلة المعتدين؛ بكف عدوانهم. والمقاتلة دفاعًا عن النفس أمر مشروع في كل الشرائع، وفي جميع المذاهب، وهذا واضح من قوله تعالى: ﴿ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾.
2- أما الذين لا يبدؤون بعدوان، فإنه لا يجوز قتالهم؛ لأن الله نهى عن الاعتداء، وحرم البغي والظلم في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: ١٩٠].3- وتعليل النهي عن العدوان بأن الله لا يحب المعتدين، دليل على أن هذا النهي محكم غير قابل للنسخ؛ لأن هذا إخبار بعدم محبة الله للاعتداء، والإخبار لا يدخله النسخ؛ لأن الاعتداء هو الظلم، والله لا يحب الظلم أبدًا.4- أن لهذه الحرب المشروعة غايةً تنتهي إليها، وهي منع فتنة المؤمنين والمؤمنات، بترك إيذائهم، وترك حرياتهم ليمارسوا عبادة الله ويقيموا دينه، وهم آمنون على أنفسهم من كل عدوان([1]).
كما لخص الشيخ مسوغات الحرب في الإسلام في حالين، هما:
الحال الأولى: حال الدفاع عن النفس، والعرض، والمال، والوطن عند الاعتداء.
الحال الثانية: حال الدفاع عن الدعوة إلى الله، إذا وقف أحد في سبيلها بتعذيب من آمن بها، أو بصد من أراد الدخول فيها، أو بمنع الداعي من تبليغها.
وقد استدل على هذا القول بآية البقرة التي معنا، وبقوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ [النساء: ٧٥]، وبآياتٍ أخر وأحاديث، وبأدلة مستنبطة من الآيات والأحاديث في عمومها([2]).
[قلت]: إن مما يؤكد على منع الاعتداء أمرين: الأول: أن قوله تعالى: ﴿ﯡ ﯢ ﯣ﴾ معلَّل بقوله سبحانه: ﴿ﯤ ﯥ ﯦ﴾؛ فإن لم يقاتلوا ابتداءً فلا يجوز الاعتداء عليهم؛ إلا أن يصدوا عن سبيل الله بأن يعذِّبوا المؤمنين، أو يخرجوهم من ديارهم، أو يمنعوا الدعاة من الدعوة إلى دين الله، أو يمنعوا غير المسلمين من الدخول في دين الله.. إلخ، وهذا كلُّه من المقاتلة. كما يجوز أن تكون ﴿ﯤ ﯥ ﯦ﴾ للتوبيخ لا للتعليل، كما قال تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: ١٣]؛ لكن الأول أظهر في الآية التي معنا، والله أعلم.
الثاني: أن سبب نزول آية براءة التي قيل: إنها ناسخة للآية التي نتحدث عنها؛ هو أن المشركين بالفعل كانوا قد تجمعوا ضد المسلمين، ورموهم عن قوسٍ واحدة، وتواطئوا عليهم جميعًا في غزوة الأحزاب (الخندق)، كما قاله بعض المفسرين. ولا يصح هنا العمل بقاعدة «العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب»؛ لأن السبب (الخاص) مثال يقاس عليه مثله، وهذا هو التعميم المناسب، وليس قتل غير المعتدين من التعميم في شيء، والله أعلم.
غير أن القول يحتاج إلى أن يتناول في إطار بحث عامٍّ حول فريضة الجهاد.. يشمل جميع ما يتعلق به، وليس هذا موضعه.
والخلاصة: أن الاعتداء على عموم الناس ممن لا يجوز الاعتداء عليهم وهم غير المقاتلين للمسلمين، ولا منتهكي الأعراض، ولا قاطعي الطريق، ولا الصادِّين عن الدعوة الإسلامية؛ يمنع من محبة الله فاعلَه، وهو ما سبق أن قررناه في آيتين سابقتين، والله أعلم.
ثانيًا- الاعتداء على حق الله تعالى في الدعاء:
يقول تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: ٥٥]. وفي حديث سعد I لما سمع ابنه -أو لما وجد ابنه- يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا؛ قال: يا بني، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء»؛ فإيَّاك أن تكون منهم، إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر([3]).
قال شارح الطحاوية: قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: ٦٠]، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: ١٨٦]، والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم؛ أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضارِّ.
وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم إذا مسَّهم الضُّرُّ في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وأن الإنسان إذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا. وإجابة الله لدعاء العبد مسلمًا كان أو كافرًا، وإعطاؤه سؤلَه من جنس رزقه لهم، ونصره لهم، وهو ما توجبه الربوبيَّة للعبد مطلقًا([4])، ثم قد يكون ذلك فتنةً في حقه ومضرة عليه؛ إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك. وفي «سنن ابن ماجه» من حديث أبي هريرة I قال: قال رسول الله ﷺ: «من لم يسأل الله يغضب عليه» ([5])، وقد نظم بعضهم هذا فقال:
الرب يغضب إن تركت سؤالَه وبُنَيُّ آدم حين يُسألُ يغضبُ #تنسيق شعر#
قال ابن عقيل: قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معانٍ: أحدها: الوجود؛ فإن من ليس بموجود لا يُدعى. الثاني: الغنى؛ فإن الفقير لا يدعى. الثالث: السمع؛ فإن الأصم لا يدعى. الرابع: الكرم؛ فإن البخيل لا يدعى. الخامس: الرحمة؛ فإن القاسي لا يدعى. السادس: القدرة؛ فإن العاجز لا يدعى.
ومن يقول بالطبائع([6]) يعلم أن النار لا يقال لها: كُفِّي، ولا النجم يقال له: أصلح مزاجي؛ لأن هذه عندهم مؤثرة طبعًا لا اختيارًا؛ فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء ليُبيِّن كذب أهل الطبائع([7]).
ثم إن الدعاء متداخل مع العبادة؛ التي هي الحكمة من خلق الجن والإنس، جدّ التداخل؛ حتى ليكونان بمعنًى واحدٍ أحيانًا؛ إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والاستعانة، وقد فسر قوله: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠] بالدعاء الذي هو العبادة، والدعاء الذي هو الطلب. وقوله بعد ذلك: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠] يؤيد المعنى الأول([8]).
وقال الإمام الطحاوي T في عقيدته: ولا غنى عن الله تعالى طرفةَ عين، ومن استغنى عن الله طرفةَ عين؛ فقد كفر وصار من أهل الحَين. قال الشارح: والحين -بالفتح-: الهلاك([9]).
وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -معلِّقًا على هذا الكلام-: من زعم أنه في غنًى عن الله، وأنه مستغنٍ عن الله؛ فقد كفر وخرج من الملَّة؛فالواجب على العبد أن يُظهر لله ضعفَه، ولا يعجبَه ما هو فيه من القوة والصحة والغنى؛ لأن الأمور بيد الله ، فلا يمكن الاستغناء عن الله.
فهذا ملخَّص عن الدعاء، وهو باب كبير في الدِّين وخطير.. ينبغي ألا يُغفلَه المسلم؛ بل هو عندي أيسر الطرق لجلب المنافع ودفع المضارِّ، وهو أيضًا أجدى الوسائل لذلك؛ لكنه يحتاج أحيانًا إلى الأخذ بالسبب، وفي حالات كالاضطرار ووقوع الظلم لا يحتاج لشيء؛ بل الله تعالى يجيب المضطر إذا دعاه، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).