السبب الثاني عشر لتحصيل محبَّةِ اللهِ عبْدَه.. الصبر

عموم الصبر([1]):

إن الله جعل الصبر جوَادًا لا يكبُو، وصارمًا لا ينبو، وجندًا غالبًا لا يُهزَمُ، وحصْنًا حصينًا لا يُهدَم؛ فهو والنصر أخوَانِ شقيقان، وقد مدَح الله D في كتابِه الصابرين، وأخبر أنه يوفِّيهم أجرَهم بغير حساب، فقال تعالى: ﴿ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ﴾ [الزمر: ١٠]، وأخبَر أنَّه معهم بهدايتِه ونصرِه العزيزِ وفتحه المبين، فقال تعالى: ﴿ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ﴾ [الأنفال: ٤٦]، فظفر الصابِرون بهذه المعيَّة بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمه الباطنة والظاهرة، وجعل سبحانه الإمامة في الدِّين منُوطَةً بالصبر واليقين؛ فقال تعالى وبقوله اهتدى المهتدون: ﴿ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ [السجدة: ٢٤].

 وأخبر تعالى أن الصَّبْر خيرٌ لأهله، مؤكِّدًا باليمين، فقال تعالى: ﴿ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾ [آل عمران: ١٢٠]، وعلَّق الفلاح بالصبر والتقوى فقال تعالى: ﴿ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [آل عمران: ٢٠٠]، وأخبَر عن محبَّته لأهلِه، وفي ذلك أعظَم ترغيبٍ للراغبين، فقال تعالى: ﴿ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [آل عمران: ١٤٦]، وبشَّر الصابرين بثلاثٍ كلٍّ منها خيْرٌ مما عليه أهل الدنيا يتَحاسَدون، فقال تعالى: ﴿ﭫ ﭬ * ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ * ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ﴾ [البقرة: ١٥٥-١٥٧]، وجعَل الفوزَ بالجنَّة والنجاةَ من النار لا يحظى به إلا الصابرون؛ فقال D: ﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ [المؤمنون: ١١١]، وخصَّ في الانتفاع بآياتِه أهلَ الصبر وأهلَ الشكر؛ تمييزًا لهم بهذا الحظِّ الموفور، فقال في أربع آياتٍ من كتابه: ﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [الشورى:33، سبأ: 19، إبراهيم: 5، لقمان: 31].

والصبر آخِيَة المؤمن التي يجُول ثم يرجِعُ إليها، وساقُ إيمانِه التي لا اعتماد له إلا عليها؛ فلا إيمانَ لمن لا صبْرَ له، وإن كان فإيمانٌ قليل في غاية الضعْف وصاحبُه ممن يعبُد الله على حرف؛ ﴿ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ [الحج: ١١]، ولم يحظَ منهما إلا بالصفقة الخاسرة؛ فخَيْر عيشٍ أدركه السعداء بصبرهم، وترَقَّوْا إلى أعلى المنازل بشكرهم، فساروا بين جَناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم، وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.

(1) معنى الصبر وحقيقتُه([2]):

الصبْر -في العربية-: المنعُ والحبس. وشرعًا: حبس النفس عن الجزَعِ، واللسان عن التشكِّي، والجوارح عن لطْم الخدود وشقِّ الجيوب ونحو ذلك.

وقيل: هو خُلُق فاضلٌ من أخلاق النفس يُمتنع به من فعل ما لا يحسُن ولا يجمُل، وهو قوَّةٌ من قوى النفس التي بها صلاحُ شأنها وقوام أمرِها. وقال بعضُهم: هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرُّع غصص البليَّة، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة. وقال آخر: هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقال آخر: هو الغنى في البلوى بلا ظهورِ شكوى. وقال آخر: تجرُّع المرارة من غير تعبُّس.

والشكوى إلى الخلْق تُنافي الصبر وتضادُّه، وقد سمِع أحدُ الصالحين رجلًا يشتكي إلى أخيه، فقال له: يا هذا، واللهِ ما زدت على أن شكوْتَ من يرحمُك إلى من لا يرحمك، وفي ذلك قيل:

وإذا شكوتَ إلى ابنِ آدم إنما  .. تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يَرحَمُ #تنسيق شعر#

أما الشكوى إلى الله D فلا تنافِي الصبر؛ لقول يعقوب S: ﴿ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ [يوسف: ٨٦] مع قوله: ﴿ﮮ ﮯ﴾ [يوسف: ٨٣]، وكذلك قول أيوب S: ﴿ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [الأنبياء: ٨٣]، وقال اللهُ D: ﴿ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ﴾ [ص: ٤٤].

وساحةُ العافية أوسع للعبد من ساحةِ الصبر، ولا ينافي هذا قوله ﷺ: «وما أُعطي أحدٌ عطاءً أوسع من الصبر»( [3])؛ فإن هذا بعد نزول البلاء، أما قبل نزولِه فميدان العافية أوسع الميادين، ولا ينبغي لأحدٍ أن يتمنى البلاء ويطلبه من الله D، بل يطلُب العفو والعافية في الدنيا والآخرة؛ أما بعد حلول البلاء فساحةُ الصبر أوسع الساحات.

والنفسُ مطيَّة العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنـزلة الخطام والزِّمام للمطية، فإن لم يكن للمطية خطامٌ ولا زمام؛ شرَدت في كلِّ مذهب.. قال بعضهم: «اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوءٍ؛ فرحِم الله امرأً جعل لنفسه خطامًا وزمامًا، فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله؛ فإنَّ الصبر عن محارم الله أيسرُ من الصبر على عذابه».

والنفس لها قُوَّتان: قوة إقدامٍ وقوة إحجام، فحقيقةُ الصبر أن يجعل قوَّة الإقدام مصروفةً إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكًا عمَّا يضرُّه، ومن الناس من يصبر على قيام اللَّيل ومشقة الصيام ولا يصبر على نظرةٍ محرَّمة، ومنهم من يصبر على النظر والالتفات إلى الصُّوَر ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد.

وقيل: الصبر شجاعةُ النفس، ومن هنا أخذ القائل قوله: الشجاعة صبْرُ ساعة. والصبر والجزَع ضِدَّان كما أخبر تعالى عن أهل النار: ﴿ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾ [إبراهيم: ٢١].

(2) فضل الصبر([4]):

عن أبي سعيدٍ الخدريِّ I، أن رسولَ الله ﷺ قال: «من يتصبَّر يصبِّرْه الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر»([5]). وعن أبي هريرةَ I، أن رسول الله ﷺ قال: «من يُرِد الله به خيرًا يُصِبْ منه»([6])؛ أي: يصيبه ببلاء. وعن عطاءِ بن أبي رباحٍ قال: قال لي ابنُ عباس: ألا أُرِيك امرأةً من أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال: هذه المرأةُ السوداء أتت النبيَّ ﷺ فقالت: إني أُصْرَع، وإني أتَكَشَّف، فادْعُ اللهَ لي. قال: «إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن  شئتِ دعوتُ الله أن يعافِيَكِ».

وقالت: أصبِر. فقالت: إني أتكشَّفُ، فادعُ الله لي أن لا أتكشَّف؛ فدعا لها([1]).

وعن أبي موسى I قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا مرِض العبد أو سافر؛ كُتِب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا»([2]). وعن أم سلمة ڤ قالت: سمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «ما من مسلمٍ تصيبه مصيبةٌ فيقول ما أمره الله: ﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾ [البقرة: ١٥٦] اللهم أجُرْني في مصيبتي وأخلِف لي خيرًا منها؛ إلا أخلَف اللهُ خيرًا منها»، فلما مات أبو سلمة؛ قلتُ: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة أوَّل بيتٍ هاجر إلى رسولِ الله ﷺ. ثم إنِّي قلتُها؛ فأخلفَ اللهُ لي رسولَه ﷺ([3]). وعن عائشة ڤ قالت: قال رسولُ الله ﷺ: «ما من مصيبةٍ تصيب المؤمن إلا كفَّر اللهُ بها عنْه حتى الشَّوْكة يشاكها»([4]).

ومن الآثار في فضله:

قال سفيان بنُ عيينة في قوله تعالى: ﴿ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ [السجدة: ٢٤]: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤوسًا. وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً فانتزعها منه، فعاضَه مكانها الصبْرَ؛ إلا كان ما عوَّضه خيرًا مما انتزعه.

(3) أقسامُ الصبر([1]):

(أ) ينقسم الصبْرُ باعتبار متعلّقِه إلى ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤدِّيَها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقعَ فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخَّطَها، وهذه الأنواع الثلاثة هي التي قيل فيها: «لابدَّ للعبد من أمرٍ يفعله، ونهيٍ يجتنبه، وقدَرٍ يصبر عليه».

 (ب) وينقسمُ باعتبار الأحكام الخمسة إلى واجبٍ ومندوبٍ ومحظورٍ ومكروهٍ ومباحٍ.. فالواجب: الصبْرُ على المحرمات، والصبر على أداء الواجبات، والصبر على المصائب. والمندوب: الصبْرُ على المكروهات، والصبر على المستحبات، والصبر على مقابلة الجاني بمثل فعله. والمحظورُ: الصبر على الطعام والشراب حتى يموت، والصبر عن الميْتة والدم ولحم الخنـزير عند الاضطرار إذا خاف بتركه الموتَ، ومن الصبر المحظور صبْرُ الإنسان على ما يقصِد هلاكه من سبعٍ أو حيَّة أو حريق أو كافرٍ يريدُ قتله، خلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين؛ فإنه مباحٌ له بل يُستحبُّ؛ كما دلَّت عليه النصوص الكثيرة. والمكروه: صبْرُه على المكروه وصبره عن فعل المستحبِّ، وكذلك الصبر على الطعام والشراب واللبس وجِماع أهلِه حتى يتضرَّرَ بذلك بدنُه. والمباحُ: هو الصبر عن كل فعلٍ مستوي الطرفين خُيِّر بين فعله وتركه والصبر عليه.

(4) هل يُستغنى عن الصبر في حالٍ من الأحوال([2])؟

العبدُ بين أمرٍ يجبُ عليه امتثالُه وتنفيذُه، ونهيٍ يجبُ عليه اجتنابُه وتركُه، وقدرٍ يجري عليه اتفاقًا؛ فالصبْرُ لازِمٌ إلى الممات، وكلُّ ما يلقى العبدُ في هذه الدار لا يخلو من نوعين: أحدهما يوافق هواه ومرادَه، والآخر يخالفُه، وهو محتاجٌ إلى الصبر في كلٍّ منهما.

أما النوع الموافق لغرضه؛ فكالصحة والسلامة والجاه والمال وأنواع الملاذِّ المباحة، وهو أحوجُ شيءٍ إلى الصبر فيها من وجوهٍ:

أحدها: أن لا يركَن إليها ولا يغتَرَّ بها، ولا تحملَه على البطر والأشر والفرح المذموم الذي لا يحبُّ اللهُ أهله.

الثاني: أن لا ينهمكَ في نَيْلِها ويبالغ في استقصائها؛ فإنها تنقلب إلى أضدادها، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضدِّه، وحُرِمَ الأكل والشرب والجماع.

الثالث: أن يصبِر على أداء حقِّ الله فيها، ولا يضيِّعه فيسلبها.

الرابع: أن يصبر عن صرفها في الحرام.

قال بعض السلف: البلاءُ يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصدِّيقون.

وقال عبد الرحمن بن عوف I: ابتُلِينا بالضرَّاء فصبَرْنا، وابتلينا بالسرَّاء فلم نصبر؛ ولذلك حذَّر اللهُ عبادَه من فتنة المال والأزواج والأولاد فقال تعالى: ﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ [التغابن: ١٤].

عن ابن عباسٍ، وسأله رجلٌ عن هذه الآية: ﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾، قال: هؤلاء رجالٌ أسلَموا من أهل مكة، فأرادوا أن يأتُوا النبيَّ ﷺ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدَعُوهم يأتوا رسول الله ﷺ، فلما أتَوْا رسولَ الله ﷺ ورأوا الناس قد فقهوا في الدين؛ همُّوا أن يعاقِبوهم، فأنزل الله: ﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾([3]). وما أكثر ما فاتَ العبدَ من الكمال والفلاح بسبب زوجتِه وولده.

وأما النوع الثاني المخالِفُ للهوى فلا يخلُو إمَّا أن يرتبط باختيار العبد؛ كالطاعات والمعاصي، أو لا يرتبط باختياره؛ كالمصائب، أو يرتبط أوَّلُه باختياره، ولكن لا اختيار له في إزالته بعد الدخول فيه؛ فهاهنا ثلاثة أقسام:

القسم الأوَّل: ما يرتبط باختياره: وهو جميع أفعاله التي توصَف بكونها طاعةً أو معصية؛ فأما الطاعة فالعبد محتاجٌ إلى الصبر عليها؛ لأن النفس بطبعها تنفِر عن كثيرٍ من العبوديَّة. أما في الصلاة فلِما في طبعها من الكسل وإيثار الراحة لا سيما إذا اتفَق مع ذلك قسوةُ القلب وريْن الذنب والميْل إلى الشهوات ومخالطة أهل الغفلة؛ فلا يكاد العبدُ مع هذه الأمور وغيرها أن يفعلها، وإن فعلَها مع ذلك كان متكلِّفًا غائب القلب ذاهلًا عنها طالبًا لفراقها. وأمَّا الزكاة فلِما في طبع النفس من الشحِّ والبخل، وكذلك الحجُّ والجهاد للأمرين جميعًا، ويحتاج العبد هاهنا إلى الصبر في ثلاثة أحوال:

أحَدها: قبل الشروع فيها بتصحيح النية والإخلاص وتجنب دواعي الرياء والسمعة.

الحال الثانية: الصبر حالَ العمل، فيلازم العبد الصبر عن دواعي التقصير فيه والتفريط، ويلازم الصبر على استِصحاب النية وعلى حضور القلب بين يدَي المعبود، وأن لا ينساه في أمرِه؛ فليسَ الشأنُ في فعل المأمور، بل الشأن كلُّ الشأن أن لا ينسى الآمِر حال الإتيان بأمره، بل يكون مستصحبًا لذكرِه في أمره.

الحال الثالثة: الصبر بعد الفراغ من العمل، وذلك من وجوه:

أحدها: أن يصبِر نفسَه عن الإتيان بما يبطل عمله.. قال تعالى: ﴿ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ﴾ [البقرة: ٢٦٤].

الثاني: أن يصبِر عن رؤيتها والعُجْب بها والتكبُّر والتعظُّم بها؛ فإن هذا أضرُّ عليه من كثيرٍ من المعاصي الظاهرة.

الثالث: أن يصبِر عن نقلها من ديوان السرِّ إلى ديوان العلانية؛ فإن العبدَ يعمل العمل سرًّا بينه وبين الله سبحانه، فيكتب في ديوان السر؛ فإن تحدَّث به نُقِل إلى ديوان العلانية، فلا يظن أن بساط الصبر قد انطوى بالفراغ من العمل.

وأما الصبر عن المعاصي فأمرُه ظاهرٌ، وأعظمُ ما يعين عليه قطع المألوفات ومفارقة الأعوان عليها في المجالسة والمحادثة، وقطع العوائد؛ فإن العادة طبيعةٌ خاصَّة، فإذا انضافت الشهوة إلى العادة؛ تظاهر جندان من جند الشيطان، فلا يقوى باعثُ الدِّين على قهرهما في الغالب.

القسم الثاني: ما لا يدخُل تحت الاختيار وليس للعبد حيلةٌ في دفعِه: كالمصائب التي لا صُنع للعبد فيها كموتِ من يعزُّ عليه، وسرقةِ مالِه، ومرضِه، ونحو ذلك، وهذا نوعان.. أحدهما: ما لا صنع للعبد الآدميِّ فيه، والثاني: ما أصابَه من جهة آدميٍّ؛ كالسب والضرب وغيرهما.

فالنوع الأول للعبد فيه أربعة مقامات: أحدها: مقام العجز، وهو مقام الجزع والشكوى والسخط، وهذا ما يفعله إلا أقل الناس عقلًا ودِينًا. المقام الثاني: مقام الصبر. المقام الثالث: مقام الرضا، وهو أعلى من مقام الصبر، وفي وجوبه نزاعٌ، والصبر متَّفقٌ على وجوبه. المقام الرابع: مقامُ الشكر، وهو أن يشهد البليَّة نعمةً فيشكر المبتلي عليها.