السماحة في البيع والشراء والاقتضاء .. سبب من اسباب تحصيل محبة الله
ثامنًا: السماحة في البيع والشراء والاقتضاء:
عن أبي هريرة I، أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله يحبُّ سمحَ البيع سمحَ الشراء سمح القضاء»([1]).
قال المباركفوري: قوله: «إن الله يحب سَمْح البيع» -بفتح السين وسكون الميم- أي: سهلًا في البيع وجوَّادًا يتجاوز عن بعض حقِّه إذا باع، قال الحافظ: السمح الجواد، يقال: سمح بكذا؛ إذا جاد، والمراد هنا المساهلة، «سمح الشراء، سمح القضاء»؛ أي التقاضي؛ لشرفِ نفسه وحسن خلُقه بما ظهر من قطع علاقة قلبه بالمال. قاله المناوي، وللنسائي من حديث عثمان رفعه: «أدخل الله الجنةَ رجلًا كان سهلًا مشتريًا وبايعًا وقاضيًا ومقتضيًا»([2]).
ومعنى: «وإذا اقتضى»؛ أي: إذا طلب دَينًا له على غريم يطلبه بالرفق واللطف لا بالخرق والعنف([3]).
وفي الصحيح عن جابر I، عن النبي ﷺ: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى»([4]).
تاسعًا: الحنيفية السمحة:
فعن ابن عباس L قال: قيل لرسول الله ﷺ: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة»([5]).
قال الحافظ: الحنيفية السمحة؛ أي: السهلة، قوله: مكانًا سمحًا؛ أي سهلًا، وكذا أسمح([6]). وقال المناوي: قال الحراليُّ: «إنما بُعِثتُ بالحنيفية السمحة» البيضاء النقيَّة، واليسر الذي لا حرج فيه ﴿ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ﴾ [الأنفال: ٤٢] اه، واستنبط منه الشافعية قاعدة: إن المشقة تجلب التيسير([7]).
والخلاصة أن هذا الدينَ الإسلاميَّ يُسرٌ.. ليس دينَ التقعُّرِ والتشدُّدِ، ولا هو دين الرهبانيَّةِ والانقطاع، وكذلك ليس دينَ التسيُّب والانفلات؛ بل دين العدل والاعتدال والإحسان في كل شيء، والتوسط بين أمرَيِ الإفراط والتفريط.
عاشرًا: الغيرة في الريبة:
عن جابر بن عتيك وعقبة بن عامر الجهني L، أن نبي الله ﷺ كان يقول: «من الغيرة ما يحبُّ اللهُ، ومنها ما يبغَضُ اللهُ؛ فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة. وإن من الخيلاء ما يبغض الله ومنها ما يحب الله؛ فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي -قال موسى: والفخر-»([8]).
قال العظيم آبادي: «فالغيرة في الريبة»؛ نحو أن يغتار الرجل على محارمه إذا رأى منهم محرَّمًا؛ فإن الغيرة في ذلك ونحوه مما يحبه الله، وفي الحديث الصحيح: «ما أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرم الزنى»([9]). «فالغيرة في غير ريبة»؛ نحو أن يغتار الرجل على أمِّه أن ينكحها زوجها، وكذلك سائر محارمه؛ فإن هذا مما يبغضه الله تعالى؛ لأن ما أحله الله تعالى فالواجب علينا الرضى به؛ فإن لم نرض به كان ذلك من إيثار حمية الجاهلية على ما شرعه الله لنا([10]).
حاديَ عشَر: الخيلاء في القتال والصدقة:
عن جابر بن عتيك وعقبة بن عامر الجهني L، أن نبي الله ﷺ كان يقول: «من الغيرة ما يحبُّ اللهُ ومنها ما يبغَضُ اللهُ؛ فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة. وإن من الخيلاء ما يبغض الله ومنها ما يحب الله؛ فأما الخيلاء التي يحب الله
فاختيال الرجل نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي -قال موسى: والفخر-»([1]).
ثانِيَ عشر- التقى (البرُّ) والغنى والخفاء:
عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، قال: كنا عند النبي ﷺ في نفر من المهاجرين والأنصار، فخرج علينا، فقال: «ألا أخبركم بخياركم؟» قالوا: بلى. قال: «خياركم الموفون المطيبون، إن الله يحب الخفي التقي». قال: ومر علي بن أبي طالب فقال: الحق مع ذا، الحق مع ذا([1]). وعن عامرِ بن سعدٍ قال: كان سعدُ بن أبي وقاص في إبلِه فجاءه ابنه عمرُ، فلمَّا رآه سعدٌ قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الراكب.
فنزل، فقال له: أنزَلْتَ في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرَب سعدٌ في صدرِه فقال: اسكت، سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «إن الله يحبُّ العبدَ التقيَّ الغنيَّ الخفي»([2])، وعن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر خرج إلى المسجد يومًا، فوجد معاذ بن جبل عند قبر رسول الله ﷺ يبكي، فقال: ما يبكيك يا معاذ؟ قال: يبكيني حديثٌ سمعته من رسول الله ﷺ يقول: «اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز اللهَ بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء؛ الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة»([3]).
1- التقى مع الغنى والخفاء: قال الإمام النوويُّ: المرادُ بالغنى غنى النفس، هذا هو الغنى المحبوب؛ لقوله ﷺ: «ولكن الغنى غنى النفس»، وأشار القاضي إلى أن المراد الغنى بالمال، وأما الخفيّ -بالخاء المعجمة، هذا هو الموجود في النسخ والمعروف في الروايات، وذكر القاضي أن بعض رواة مسلم رواه بالمهملة؛ فمعناه -بالمعجمة- الخامل المنقطع إلى العبادة، والاشتغال بأمور نفسِه.
ومعناه -بالمهملة- الوَصُول للرحِم اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء، والصحيح بالمعجمة. وفي هذا الحديث حجةٌ لمن يقول: الاعتزال أفضلُ من الاختلاط. وفي المسألة خلافٌ، ومن قال بالتفضيل للاختلاط قد يتأوَّل هذا على الاعتزال وقتَ الفتنة ونحوها([4]).
2- البر مع التقى مع الخفاء: أما قوله ﷺ: «إن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الدجى، يخرجون من كل غبراء مظلمة»؛ فقد اختلف العلماء في سندِه تصحيحًا وتحسينًا وتضعيفًا، وقد نرى متنه لا يوافق البلاغة النبويَّة، إلا أن معناه موافقٌ لنصوص ثابتةٍ كثيرة.
والتقي: هو من يترك المعاصي امتثالًا للمأمور به، واجتنابًا للمنهي عنه.
والغني: غنيُّ النفس، وهو الغنيُّ المحبوب. قال ابن بطال: معنى الحديث: ليس حقيقةَ الغِنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي؛ فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي أين يأتيه. وقال القرطبي: معنى الحديث أن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس
وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع؛ فعزَّت وعظمت وحصل لها من الحظوة والنـزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى يناله من يكون فقير النفس لحرصه؛ فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال همتُه وبخله، ويكثر من يذمه من الناس ويصغر قدره عندهم؛ فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل ذليل.
والخفي: الخامل الذِّكْر، المعتزل عن الناس؛ الذي يُخفي عليهم مكانه ليتفرغ للتعبُّد. قال ابن حجر: وذكر للتعميم إشارة إلى ترك الرياء.
قال الطيبي: والصفات الثلاث الجارية على العبد واردة على التفضيل والتمييز؛ فالتقي مخرج للعاصي، والغني للفقير، والخفي على الروايتين لما يضادها؛ فإذا قلنا: إن المراد بالغنى غنى القلب اشتمل على الفقير الصابر والغني الشاكر منهم، وفيه على الأول حجة لمن فضَّل الاعتزال وآثر الخمول على الاشتهار([5]).
وبالجملة فقد «أخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ أن نحبَّ الفقر وقلَّة ذات اليدِ، وكذلك نحبّ من كان بهذه الصفة أيضًا من الفقراء والمساكين والمستضعفين، ونحب مجالستهم؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ﴾ [الكهف: ٢٨]، وذلك لأن رحمةَ الله تعالى لا تفارقُهم، فنحبهم ونحب مجالستهم لمحبة الله تعالى لهم. وكذلك نحبُّ الفقر لما فيه من كثرة سؤالنا للحق وتوجُّهنا إليه لعلةٍ أخرى.
وإيضاحُ ذلك أن حاجة العبد تذكره بالله تعالى وعدم حاجته تنسيه الحق.. قال تعالى: ﴿ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ * ﮙ ﮚ ﮛ﴾ [العلق: ٦، ٧]، وقال: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾ [الإسراء: ٦٧]. ومن هنا قال ﷺ: «اللهمَّ اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا وكفافًا»([6])؛ أي: لا يفضل عنهم من غدائهم ولا عشائهم شيء، وذلك ليصيروا متوجهين إلى الله تعالى كل حينٍ لا ينسونه. فانظر ما أشدّ شفقته ﷺ على أهل بيته! ويقاس بأهل بيته غيرهم، فوالله لو علم الإنسان قدر مقام الفقر لتمناه ليلًا ونهارًا»([7]).
ثالثَ عشَرَ: الحياءُ والسّتْرُ:
قال رسول الله ﷺ: «إنَّ اللهَ حيِيٌّ سِتِّيرٌ.. يحبُّ الحَياء والسّتْر؛ فإذا اغتسل أحدُكم فلْيَسْتَتِر»([8]).
وحقيقة الحياء أنه خُلُقٌ يَبعث على ترك القَبائح، ويمنَع من التفرِيط في حقِّ صاحبِ الحق، وقد اختَّص اللهُ D به الإنسانَ ليرتدعَ به عمَّا تنـزِع إليه الشهوةُ من القبائح؛ كيْلا يكونَ كالبهيمة التي تهجم على ما تشتهي دون حَيَاء. وبين اقترافِ الذنوب وقِلَّةِ الحياء وعدمِ الغَيْرة تلازمٌ من الطرَفين، وكلٌّ منهما يستدعِي الآخرَ ويطلبُه حثيثًا([9]).
والحياء خلُق الإسلام كما دلَّت السنة.. قال النبي ﷺ -لمن لام غيره على الحياء-: «دَعْهُ؛ فإنَّ الحياءَ من الإيمان»([1])، وقال ﷺ: «والحياءُ شُعبَةٌ من الإيمانِ»([2])؛ ولم يذكر من أخلاق الإسلام إلا الحياء شعبةً من الإيمان، وكأنَّ الإيمان إنما ينقُص بقلَّة الحياء، وقال ﷺ: «الحياءُ من الإيمان، والإيمان في الجنَّة، والبذَاءُ من الجفَاء، والجفاء في النار»([3])، وقال ﷺ: «ما كان الفحشُ في شيءٍ إلا شانَه، وما كان الحياءُ في شيءٍ إلا زَانه»([4])، وقال ﷺ: «إنَّ مما أدرك الناسَ من كلام النُّبُوَّةِ الأولى: إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شئت»([5]).
ثم إن الأمَّة المسلمَة، بل البشريَّةَ بأسرِها، في خطرٍ محدِق في هذا الزمن، أو هي على شَفا جُرف هارٍ.. أوقعها ويريد أن يوقعها فيه شياطينُ الجنِّ والإِنْس، بتدميرِ الأخلاق السامية وعلى رأسها الحياء.. مستغلِّين الشهواتِ والفتن التي تبضُّ بها أجسادُ النساء عاريَةً، وتدعو إليها كلَّ فتًى خاوٍ من القيمة الذاتيَّة والغاية السامِيَة؛ فيظهرون منَ المرأة ما كانت تُقطع رقبتها ويُدَقُّ عنقُها ولا تظهره.
ويطاردون بطغامهن الشبابَ المعوِز في كل بيتٍ وشارع.. في زمان زادت فيه التبعات وقلَّت الحيل.. حتى أضحى الحياءُ عاريًا، والنارُ مضطرمةً في إزارِه، وليس من ساترٍ يستر عيبًا أو يُخفِي سَوْءة، والله المستعان على عَذَاباتِ التُّقَى.
خلاصة هذا السبب:
1- التخلق بمكارم الأخلاق كلها؛ فإنها رسالة الإسلام وتزكية النفوس.
2- الرفق، وهو أول الأخلاق المحبوبة لله تعالى.
3- الحلم والأناة، مع الحذر من الجبن، ومن التباس المفاهيم في هذا الزمن المملوء عيًّا.
4- التماس الأعذار. 5- العفو والصفح.
6- التحديث بالنعم وإبداؤها؛ فإن ذلك من الشكر.
7- التجمل، بالنظافة والطهارة، وبلا خيلاء أو إسراف.
8- السماحة في البيع والشراء والقضاء، مع عدم ترك الحق لمن يطغيه ذلك.
9- الحنيفية السمحة. 10- الغيرة في الريبة. 11- الخيلاء عند القتال وفي الصدقة.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).