الزهد .. مانع من موانع محبة الله عبدًا

الزهد

أما أن الغالب على الصالحين الزهد، فقد كانت تلك حال سائر الأنبياء وخاتمهم محمد ﷺ؛ لكن كان من الأنبياء ملوكٌ أمثال داود وسليمان -عليهما السلام- وأما الصحابة فقد كانت حالهم قريبةً من ذلك.. كانوا في عمومهم زاهدين كأبي بكر وعمر وعليٍّ وأبي عبيدة؛ ولكن كان منهم عثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأنس ممن سكنوا القصور؛ لكنهم لم يجاوزوا حد الاعتدال؛ من حيث لم يتطاولوا في البنيان، ولا أخذوا مالًا بغير وجه حق، ولا منعوا عباد الله صدقاتهم، ولا جحدوا نعمة الله عليهم؛ بل كانوا متواضعين أسخياء أتقياء، مقرِّين بفضل الله عليهم.

وقال رسول الله ﷺ في داود S خاصة، وهو النبي الملك الغنيُّ: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود S كان يأكل من عمل يده»([1])، وقال الله تعالى في سليمان S: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: ١٩].

وقال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ١٠٢]، وقال تعالى -في أنصار رسوله ﷺ-: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: ٩].

وإذن فحد الاعتدال في الأكل أن يكون حلالًا طيِّبًا، وألا يزيد فيه عن حاجته فيضر نفسه، وأن يدعو إليه إذا حضره أحدٌ وهو يأكل، وأن يكون بآدابه كما في حديث رسول الله ﷺ: «يا غلام! سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»([2]). وليس من حدِّه منع صنف بعينه ما دام حلالًا في ذاته وفي الوجه الذي جاء منه، وغير مضرٍّ على متناوله، وإن كان التقليل من المتع الحلال -ومنها الأكل- لتأديب النفس أو طلب ما عند الله؛ مشروعًا.

2- حد الإسراف في الإنفاق: قال تعالى -في صفات عباد الرحمن-: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: ٦٧]، وقال: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: ٢٩]، وعن عامر بن سعد عن أبيه، قال: عادني رسول الله ﷺ في حجَّة الوداع من وجعٍ أشفيتُ منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنةٌ لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا»، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: «لا، الثلث والثلث كثير، إنَّك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس، ولست تنفق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أُجِرت بها، حتى اللقمة تجعلها في فِي امرأتك»([3]).

كما أنه لما تاب الله على الثلاثة الذين خُلِّفوا يوم تبوك، قال كعب بن مالك I: قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسول الله؛ قال رسول الله ﷺ: «أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك»، قلتُ: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر([4]). وقال القرطبي -في تفسيره-: روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمَد إلى خمسمائة نخلةٍ فجذَّها، ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئًا، فنـزلت: ﴿ ﴾؛ أي: لا تعطوا كلَّه.

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: جذَّ معاذ بن جبل نخلَه، فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شيء، فنـزل: ﴿ﯚ ﯛ﴾.. قال السدي: ولا تسرفوا؛ أي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء([5]).

ومعلوم أن الإنفاق منه ما هو فريضةٌ؛ كإخراج الزكاة والإنفاق في الجهاد والإنفاق على العيال وغير ذلك، وما هو تطوُّع؛ كالصدقات في وجوه الخير المندوبة.. أما عن الفريضة فإن أخرج زيادةً عنها كان أحبَّ إلى الله ما لم يظلم نفسه وعيالَه وورثته، وأما في التطوُّع فالظاهر فيه الثلث كما تؤكد النصوص.

وأما الإنفاقُ استدانةً فليس من الحكمة إن لم يترك ما يسدُّ عنه؛ لأن الدَّين لا يسقُط، وما روي مغلَّظًا فيه قد لا تجبره الصدقة، فمن أنفق دينًا فليترك ما يسدُّه، وليُوص بذلك ورثته.

تنبيه:

حمل بعضهم حديث سعد بن أبي وقاص I السابق على الوصيَّة، وهو صريحٌ في رواية البخاري في الوصيَّة، ومعلومٌ أن الوصية لا تزيد عن الثلث، ولكن في رواية مسلم([6]) -كما نقلنا- قال: «أفأتصدق».

ومن مجموع الأدلة السابقة يتضح أن حد الاعتدال في الإنفاق هو الثلث؛ لأن النبي ﷺ لم يأذن في أكثر من ذلك لسعد وهو من العشرة المبشرين M، ولا لمعاذ وهو أعلم أصحاب النبي ﷺ بالحلال والحرام، ولا لثابت بن قيس I خطيبه ﷺ، ولا لكعب بن مالك I، وقد يكون نذر التصدق بكل ماله إن تاب الله عليه، مع أن النذر واجب الأداء. كما رُوي أن رجلًا أعتق ستةَ أعبد له عند الموت لا مال له غيرهم، فأقرع رسول الله ﷺ بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة([7]).

وقال الإمام الطحاوي: تكلَّم الناس بعد هذا في هبات المريض وصدقاته، إذا مات في مرضِه ذلك؛ فقال قوم -وهم أكثر العلماء-: هي من الثلُث كسائر الوصايا. وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى- وقالت فرقة: هو من جميع المال كأفعاله وهو صحيح. وهذا قول لم نعلم أحدًا من المتقدمين قاله([8]).

ولا يحتج بأن أبا بكر أنفق ماله كلَّه في سبيل الله، حتى قال له النبي ﷺ: «ما تركت لأهلك؟» قال: تركت لهم الله ورسوله. ولم يعطه النبي ﷺ درهمًا واحدًا يخصُّه به، ولا بإنفاق عمر نصف ماله([9])، وذلك لسببين:

الأول: لضعف الحديث إذ هو مرسل([10])، والأخذ بالصحيح أولى حتى في فضائل الأعمال. ونحن نتحدث عن صفةٍ يكرهها الله تعالى وهي الإسراف، وتتنافى آيتا الإسراء والفرقان مع إنفاق كلِّ المال، وكذلك ما نقلنا سلفًا من أحاديث صحيحة.

الثاني: أنه حتى لو فُرِض صحة الرواية في حق أبي بكر وعمر، وهي ليست بعيدةً عنهما؛ خاصة وأن الثابت أن أبا بكر أنفق ماله على النبي ﷺ قبل الفتح ومات ولم يترك شيئًا، فلها توجيهٌ؛ إذ أبو بكر وعمر خير الناس بعد النبيين، ولا يخشى عليهما السخط على الله لفقرِهما، أما غيرهما فيخشى عليه ما لا يخشى عليهما.

وهذا إثبات آخر لفضل أبي بكر وعمر على سائر الأمة، ولله الفضل والمنة.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).


(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).


(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).


(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.


بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.