الذلة على المؤمنين .. العزة على الكافرين

السبب الرابع عشر لتحصيل محبَّةِ اللهِ عبْدَه

الذلَّةُ على المؤمنين والعزةُ على الكافرين

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: ٥٤]. وفي هذا السبب مناسبةٌ للذي قبلَه؛ أي التوكل، وللذي بعدي؛ أي الجهاد؛ إذ ينبغي على المؤمنين بذلُ النُّصرة للخائف، والدواء للمريض، والعلم للجاهل، والمال للفقير..

خاصةً إذا كان هذا الفقير أو الجاهل أو المريض أو الخائف أخًا لهم مؤمنًا. وكما أن على المؤمن أن يفعل ذلك بالمؤمن؛ فإنَّه محظورٌ على هذا المؤمن الخائف أو الجاهل أو المريض أو الفقير أن يطلبَ شيئًا يحتاجه من كافر؛ إلا إذا كان بأجْر، أو علم أن هذا الكافر لا يُذِلُّه ولا يتعزَّز عليه، وفي ظروف الاستضعاف؛ لأن رسول الله ﷺ دخل مكة بعد عودته من الطائف في جوار المطعم بن عدِيٍّ وهو كافر..

هذا مقتضى الآية، ومقتضى قوله ﷺ: «فارجع فلن أستعين بمشرك»([1]). وقبل أن نسرد تفسير الآية في هذا السبب لتحصيل محبَّة الله تعالى عبدَه يجدُر بنا أن نفهم معنى الذلة والعزة..

معنى الذلَّة:

قال الإمام القرطبي -في تفسيره ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٦١]-: الذلة الذلُّ والصغار، وقيل: الذلة فرضُ الجزية عن الحسن وقتادة، وقال أبو عبيدة: الذلة الصَّغار([2]). وقال -في تفسيره ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: ٢٦]-: ذَلَّ يذِلُّ ذُلًّا؛ إذا غَلب وعلا وقَهر، قال طرفة: بطيءٍ عن الجُلَّى سريعٍ إلى الخنا  ذليلٍ بإجماع الرجال ملهدِ([3])

وقال في تفسيره: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران: ١٢٣]: معناها -أي معنى أذلة- قليلون؛ وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثةَ عشرَ أو أربعةَ عشر رجلًا، وكان عدوُّهم ما بين التسعمائة إلى الألف. وأذلة جمع ذليل، واسم الذل هنا مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزَّة([4]). وقال في تفسير الذلة في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۖ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: ٢٧]: أي يغشاهم هوانٌ وخزي([5]).

وقال في قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: ٢٤]: هذا استعارةٌ في الشفقة والرحمة بهما، والتذلل لهما تذلُّلَ الرعيةِ للأمير والعبيد للسادة؛ كما أشار إليه سعيدُ بن المسيّب، فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله وسكناته ونظَرِه، ولا يحدّ إليهما بصرَه؛ فإن تلك هي نظرة الغاضب([6]).

وقال -في تفسيره ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: ١١١]-: قال مجاهِد: المعنى: لم يحالف أحدًا ولا ابتغى نصرَ أحد؛ أيْ: لم يكن له ناصرٌ يجيره من الذل فيكون مدافعًا، وقال الكلبي: لم يكن له وليٌّ من اليهود والنصارى؛ لأنهم أذلة الناس لقولهم: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ۖ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [المائدة: ١٨]، وقال الحسن بن الفضل: يعني: لم يذل فيحتاج إلى وليٍّ ولا ناصر لعزته وكبريائه([7]).

وإذن بجَمْع ما ورد في تفسيرات الذُّلِّ والذِّلَّة ومشتقاتهما؛ فمعانيها هي: الصغار، وفرض الجزية، والغلب، والقهر، والقلة، والهوان، والخزي، والشفقة، والرحمة، واللين، والانقياد، والسهولة، والاستكانة، والاحتياج. وإذن فالذلة جاءت في القرآن الكريم بمعنيين:

الأول: طيب؛ وهو ذلة المؤمن لأبويه وللمؤمنين، وقبل ذلك للهِ D، وتعني هذه الذلةُ المعانِيَ الطيِّبة للكلمة، مثل: الشفقة والرحمة واللين والانقياد والسهولة والاستكانة والاحتياج؛ قال ﷺ: «لينوا في أيدي إخوانكم»([8])، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: ٢]، وقال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: ١٠٣]؛ فذلك فيه معنى الحاجة، ويستلزم الطاعة للأمراء، وكلُّ إنسانٍ لابد مأمورٌ فعليه الطاعة والتزام الجماعة.

النوع الثاني للذلَّة: خُلُقٌ رَذْل قبيح لا يسوغ من المؤمن، وإنما هو صِفة في الكافرين، وخاصةً اليهود والمنافقين منهم، الذين نحن مأمورون بمخالفتهم، فلو لم يكن في الذلة شيءٌ من الشر إلا أنها خلق اليهود والمنافقين وصفتُهم وحالهم؛ لكانت جريرةً يجب الإقلاعُ عنها؛ فكيف وهي تعني الصَّغَار والخزيَ والهوان والغلب مما لا يرضاه أحد لنفسه، خاصة ذا المروءة والنخوة؟!

معنى العِزَّة في الآية:

قال القرطبي T -في تفسيره: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: ٢٠٦]-: والعزة القوة والغلبة، من عزَّه يعِزَّه إذا غلبه، ومنه: ﴿ إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) [ص: ٢٣]، وقيل: العزة هنا الحميَّة، ومنه قول الشاعر:

أخذتْه عزَّةٌ من جهلِه فتولَّى مُغضَبًا فِعْل الضَّجِر #تنسيق شعر#

وقيل: العزةُ هنا المنعَة وشدة النفس؛ أي اعتزَّ في نفسه وانتحى؛ فأوقعته العزة في الإثم حين أخذته وألزمته إيَّاه، وقال قتادة: المعنى: إذا قيل له: مهلًا؛ ازداد إقدامًا على المعصية، والمعنى: حملته العزة على الإثم، وقيل: أخذَتْه العزَّة بما يؤثمه؛ أي ارتكب الكفر للعزة وحميَّة الجاهلية، ونظيره: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ [ص: ٢]([9]).

قال القرطبي -في تفسيرها-: ﴿﴾ عن قبول الحق وعداوَة لمحمدٍ ﷺ، بل هم في تكبُّر عن قبول الحق([10]). وقال -في تفسير قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ۗ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [آل عمران: ٤]-: ﴿ﭸ﴾؛ أي: منيعٌ في مُلْكِه، ولا يمتنع عليه ما يريده.

وإذن فالعزَّة هي: الغلبة والقوة والمنعة والقدرة. إلى آخر هذه المعاني، وكما أن الذِّلة منها ما هو محمودٌ ومنها ما هو مذموم؛ فكذلك العزَّةُ منها ما هو محمودٌ ومنها ما هو مذموم.

فالعزَّة المحمودة هي: العزة بالحق وفي الحقِّ، والعزة بالله وبالإيمان والإسلام، والعزَّة بالنفس التي بمعنى الاعتزاز والاعتداد في مواجهة الكفار في الحرب والقتال، وإذا كانا في مقارنةٍ بين الإيمان والكفر، وغير هذا من أشكال ومظاهر العزة المحمودة.

أما العزة المذمومة فهي: العزة على المؤمنين؛ أي الاستعلاء والتمنُّع عليهم والاحتجاب عنهم والشموخ في وجوههم.. إلى غير ذلك من ألوان العزَّة الكريهة التي يُنظر لصاحبها بامتعاض، ويتساءل الناس فيما بينهم عن صاحبِها متعجبين: ما باله، ولمَ يفعلُ ذلك؟!

• الذلة على المؤمنين والعزَّة على الكافرين:

يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: ٥٤].

قال القرطبي -في تفسيرها-: «أذلَّة» نعتٌ لقوم، وكذلك «أعزة»؛ أي: يرأَفُون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلِينون لهم؛ من قولهم: دابَّة ذَلُول؛ أي تنقاد سهلة، وليس من الذل في شيء، ويغلظون على الكافرين ويعادونهم؛ قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيِّد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسَّبُع على فريسته؛ قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ٢٩]، ويجوزُ «أذلةً» بالنصب على الحال؛ أي: يحبُّهم ويحبونه في هذا الحال.

وقال السعدي -في تفسيرها-: ومن صفاتهم أنهم؛ فهم للمؤمنين أذلَّة من محبَّتِهم لهم ونصحهم لهم، ولِينهم ورفقهم، ورأفتهم ورحمتهم بهم، وسهولة جانبهم، وقرب الشيء الذي يُطلَب منهم. وعلى الكافرين بالله المعاندين لآياتِه المكذِّبين لرسله أعزَّة، قد اجتمعت هِمَمُهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سببٍ يحصل به الانتصار عليهم..

قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: ٦٠]، وقال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ٢٩].

فالغلظة الشديدة على أعداء الله مما يقرِّب العبدَ إلى الله، ويوافق العبدُ ربَّه في سخطِه عليهم، ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتَهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن واللِّين في دعوتهم، وكِلا الأمرين من مصلحتهم ونفعُه عائدٌ إليهم

وإذن فالرفق في معاملة المؤمنين والشدة في معاملة الكفار من أسباب محبة الله تعالى عبدَه، وهو من الإيمان؛ لأنَّ هذه الشدة في معاملة الكفار من باب البغض لهم في الله تعالى الذي هو أوثق عرى الإيمان، والرفق في معاملة المؤمنين هو لله أيضًا منبثق عن الحب فيه تعالى، وفي الحديث: «أوثقُ عرى الإيمان الحبُّ في الله والبغضُ في الله»

خلاصة هذا السبب:

أن الدين الإسلامي قد فصَل بين الناس فقسمهم قسمين؛ مؤمنًا على المحجَّة وكافرًا أقيمت عليه الحُجَّة، وأن على المسلم الحقِّ أن يفرِّق بينهما كما فرَّق اللهُ بينهما؛ فيذِلَّ للمؤمن، بمعنى: يلين ويخفض جناحَه لا أن يعطي الدنيَّة في نفسه، ويعزّ على الكافر ليعرِّفه حقيقة نفسه من دون أن يظلمَه أو يأخذ حقَّه.

كما أن هذه الآية تضمَّنت السبب الآتي لتحصيل محبَّة الله تعالى عبدَه؛ ألا وهو الجهاد في سبيله سبحانه، لا يخشى المجاهدُ لوْمةَ لائم.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.

بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.