ما الأمور التي يحتويها الدعاء وما شروط وموانع الإجابة؟
أما عن آية الأعراف التي معنا، فيمكن تقسيمها قسمين:
القسم الأول: قوله تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: ٥٥]، وفيه ثلاثة مندوبات قد ترقى أحيانًا إلى الفرض:
المندوب الأول: أن يكون من الإنسان دعاءٌ لربه.. دعاء عبادة ودعاء مسألة؛ فالدعاء دعاءان؛ دعاء لمجرد أن الله موجود وأن العبد لابد أن يسأله حتى ولو لم تكن ثمة أشياء يطلب جلبها أو دفعها، ودعاء إذا أراد هذا أو ذاك؛ لأن الله وحده القادر عليهما.
والثاني: أن يكون الدعاء تضرُّعًا؛ أي: إلحاحًا في المسألة، ودأبًا في العبادة.
والثالث: أن يكون الدعاء خُفية؛ أي: ليس جهرًا ولا علانية؛ لئلا يكون رياءً أو يخشى منه الرياء، ولكي يكون بإخلاص.
القسم الثاني: قوله تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: ٥٥]؛ أي: لا يحب المتجاوزين للحد في كل الأمور، ومن الاعتداء كون العبد يسأل الله مسائل لا تصلح، أو ينقطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء؛ فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه([1]).
فالاعتداء في الدعاء يشمل أمورًا:
1- الدعاء بما لا يجوز؛ كقطيعة الرحم، والدعاء بالإثم.. قال ﷺ: «ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم؛ إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال»([2]).
2- أن ينقطع عن السؤال.. قال ﷺ: «من لم يسأل الله يغضب عليه»([3]).
3- المبالغة في رفع الصوت بالدعاء.. قال ﷺ: «يا أيها الناس، أربِعوا على أنفسكم -أي: ارفقوا عليها ولا تتشددوا- فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»([4]).
4- الدعاء على الأنفس والأولاد والأموال.. قال ﷺ: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم»([5]).
5- تعجُّل الإجابة؛ قال ﷺ: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجِّل، يقول: دعوت ولم يستجب لي»([6]).
6- عدم العزم في الدعاء.. قال ﷺ: «لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت؛ ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما شاء لا مكره له»([7]).
7- الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا؛ فعن أنسٍ I، أن رسول الله ﷺ عاد رجلًا من المسلمين قد خفَتَ فصار مثل الفرخ؛ فقال له رسول الله ﷺ: «هل كنت تدعو بشيءٍ أو تسأله إيَّاه؟» قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا؛ فقال رسول الله ﷺ: «سبحان الله! لا تطيقُه (أو: لا تستطيعُه)، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟» قال: فدعا اللهَ له فشفاه([8]).
8- الدعاء بالموت على نفسه.. قال ﷺ: «لا يتمنَّ أحدكم الموت، ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه؛ إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمنَ عمرُه إلا خيرًا»([9]).
9- أن يتشدق في الدعاء ويتفيهق، كما في حديث سعد I لابنه حينما سمعه يدعو بتلك التفاصيل التي نهاه عنها.
10- الدعاء في الشدة وترك الدعاء في الرخاء، أو الدعاء في الرخاء وتركه في الشدة.. قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: ١٢]، وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: ١١]، والآيات في ذلك كثيرة.
11- وهذا هو أخطرها وأكثرها عدوانًا، بل هو كفر بالله العظيم؛ ألا وهو دعاء غير الله تعالى, قال تعالى: ﴿ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: ٦٥، ٦٦].
فهذه أحد عشر أمرًا قابلة للزيادة لا تجوز في الدعاء، وكل أمر نهى النبي ﷺ عن الدعاء به، أو طريقة نهى عن الدعاء من خلالها، أو شيء من هذا القبيل؛ فهو عدوان في الدعاء.
فهذه الأمور المنهي عنها في الدعاء تتراوح بين الكفر والكراهة، وجميعها تفقد الدعاء وظيفته وهي تحقيق المطلوب منه، أو أنه إذا أجيب لم يكن ذلك خيرًا بل شرًّا على الداعي؛ فيجب تجنبها والاقتصار على المشروع خشية الخطأ، الذي -والعياذ بالله- قد يجلب الضرر.
شروط وموانع الإجابة:
ينقسم الدعاء -كما أسلفنا- إلى دعاء عبادة ودعاء سؤال، والإجابة تختص بدعاء السؤال، ولكي تحصل إجابة دعاء السؤال ينبغي توافر شروط وغياب موانع حددها الشرع؛ فقد جاء في شرح العقيدة الطحاوية: «أن الدعاء سبب مقتضٍ لنيل المطلوب، والسبب له شروط وموانع؛ فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب؛ بل قد يحصل غيره.. وكثيرًا ما تجد أدعيةً دعا بها قوم فاستجيب لهم.
وقد يكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبِه وإقبالُه على الله، أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرًا لحسنته، أو صادف وقت إجابة، ونحو ذلك؛ فأجيبت دعوته؛ فيظن أن السر في ذلك الدعاء فيأخذه مجرَّدًا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي؛ فالأدعية والتعوذات والرقى بمنـزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط؛ فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا، والساعد ساعدًا قويًّا، والمحلُّ قابلًا، والمانعُ مفقودًا؛ حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَمَّ مانع من الإجابة؛ لم يحصل الأثر.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).