الحلم والأناة - العفو - التماس العذر .. للحصول على محبَّةِ اللهِ عبْدَه

الحلم والأناة - العفو - التماس العذر

ثالثًا- الحلم والأناة:

قال رسول الله ﷺ لأشَجِّ عبد القيس: «إن فيك خَصْلَتين يحبُّهما الله.. الحلم والأناة»([1]). قال المباركفوري: ويجوز فيه وجهانِ: النصبُ على البدَليَّة، والرفعُ على أنه خبر مبتدأٍ محذوف؛ أي: هما الحلم والأناة. قال النوويُّ: الحلم هو العقل، والأناة هي التثبُّت وترك العجلة، وهي مقصورة يعني بوزن نواة، وسبب قول النبي ﷺ ذلك له ما جاء في حديث الوفد؛ أنهم لما وصلُوا إلى المدينة بادروا إلى النبي ﷺ وأقام الأشج عند رِحالهم فجمعها وعقَل ناقتَه ولبِس أحسنَ ثيابه.

ثم أقبل إلى النبي ﷺ؛ فقرَّبه النبيُّ ﷺ وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي ﷺ: «تبايعون على أنفسِكم وقومكم»، فقال القوم: نعم؛ فقال الأشجُّ: يا رسولَ الله، إنك لم تزاود الرجل عن شيءٍ أشدَّ عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا ونرسلُ إليهم من يدعوهم، فمن اتَّبَعنا كان منَّا ومن أبى قاتلناه. قال: «صدقتَ، إن فيك خصلتين»([2]) الحديث. قال القاضي عياض: فالأناة تربُّصُه حتى نظر في مصالحه ولم يعجَل، والحلم هذا القول الذي قاله الدالُّ على صحَّة عقله وجَودة نظره للعواقب([3]).

رابعًا: العفو:

عن عائشة ڤ قالت: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن علمت أيّ ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفُوٌّ كريمٌ تحبُّ العفو فاعفُ عنِّي»([4]).

وإذا كان E يحب العفو فقد أمرَنا به وحثَّنا عليه.. قال عز من قائل: ﴿ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، وقال تعالى: ﴿ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾ [المائدة: ١٣]، وقال سبحانه: ﴿ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾ [البقرة: ١٠٩]، وقال D: ﴿ﭵ ﭶ﴾ [الأعراف: ١٩٩]، وقال تعالى: ﴿ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾ [آل عمران: ١٣٤].

ويؤخذ من هذا الحديث مندوبان؛ الأول: بذل العفو للأدنى؛ وهو كل من طلبه.. كان ما كان من جريرته ما دام المرء قادرًا عليه، والثاني: طلبه من الأعلى، وهو الله تعالى وحده.

خامسًا: التماس الأعذار:

قال رسول الله ﷺ: «وليس أحدٌ أحبّ إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل»([5]).

قال الحافظ ابن حجر T: قال ابن بطال: هو من قوله تعالى: ﴿ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾ [الشورى: ٢٥]؛ فالعذر في هذا الحديث التوبة والإنابة، كذا قال، وقال عياض: المعنى: بعث المرسلين للإعذار والإنذار لخلقه قبل أخذهم بالعقوبة، وهو كقوله تعالى: ﴿ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ [النساء: ١٦٥]، وحكى القرطبي -في «المفهم»- عن بعض أهل المعاني، قال: إنما قال النبي ﷺ: «لا أحد أحب إليه العذر من الله» عقب قوله: «لا أحد أغير من الله»، منبِّهًا لسعد بن عبادة على أن الصواب خلاف ما ذهب إليه.

ورادعًا له عن الإقدام على قتل من يجده مع امرأته؛ فكأنه قال: إذا كان الله مع كونه أشد غيرة منك يحب الإعذار ولا يؤاخذ إلا بعد الحجة؛ فكيف تقدم أنت على القتل في تلك الحالة؟! وقال القرطبي: ذكر المدح مقرونًا بالغيرة والعذر تنبيهًا لسعد على أن لا يعمل بمقتضى غيرته ولا يعجل؛ بل يتأنى ويترفق ويتثبت حتى يحصل على وجه الصواب، فينال كمال الثناء والمدح والثواب لإيثاره الحق، وقمع نفسه وغلبتها عند هيجانها، وهو نحو قوله: «الشديد من يملك نفسه عند الغضب»، وهو حديث صحيح متفَقٌ عليه([6]).

وإذا كان الإعذار محبوبًا إلى الله D، وأنه D يعذر؛ فيجب علينا أن يعذر بعضُنا بعضًا؛ لكنَّ لابد لهذا الإعذار من ضوابط، حتى ينوء كل إنسانٍ بمسئولياته وذنوبه، فالإنسان يجري عليه النسيان والخطأ غير المتعمّد، ولكنه مسئولٌ مكلَّف.. هذا هو الأصل أنه مسئول عما يفعل، ويعذر للعوارض؛ من جهل وخطأ ونسيان وضعف.. إلخ.

سادسًا: التحدُّث بنعم الله تعالى وإبداؤها:

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده»([7]). وأتى النبيَّ ﷺ رجلٌ سيئُ الهيئة فقال: «ألك مال؟» قال: نعم، من كل أنواع المال. قال: «فَلْيُر عليكَ؛ فإن الله يحبُّ أن يرى أثرَه على عبده حسنًا، ولا يحبُّ البؤس ولا التبؤُّس»([8]).

قال المناوي في شرح صيغة أخرى لهذا الحديث: «إذا آتاك اللهُ مالًا»؛ أي: متمولًا وإن لم تجب فيه الزكاة، «فَلْير» -بسكون لام الأمر- «عليك؛ فإن الله يحبُّ أن يرى أثره» -محرَّكًا- أي أثر إنعامه «على عبده حسنًا» بحسن الهيئة والتجمُّل. قال البغَوِيُّ: هذا في تحسين ثيابه بالتنظيف والتجديد عند الإمكان من غير مبالغة في النعومة والترفُّه، ومظاهرة الملبس على الملبس على ما هو عادة العجم والمترفِّهين.

«ولا يحب» يعني: يبغض «البؤس» -بالهمز والتسهيل- أي: الخضوع والذّلة ورثاثة الحال؛ أي: إظهار ذلك للناس، «ولا التباؤس» -بالمد وقد يقصر- أي: إظهار التمسكُن والتخلقُن والشكاية؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي لاحتقار الناس له وازدرائهم إيَّاه وشماتة أعدائه، فأمَّا إظهار العجز فيما بينه وبين ربِّه بلا كراهةٍ لقضائه ولا تضجُّر؛ فمطلوب([9]).

وقال أيضًا -بتصرُّفٍ قليل-: المالُ الشيءُ له قيمةٌ يباع بها، سُمِّي مالًا لأنه يُميل القلوب، أو لسرعة ميله؛ أي زواله؛ فلير الناس «أثر» -بالتحريك- «نعمة الله عليك»؛ أي: سمة إفضاله وبهاء عطائه؛ فإنَّ مِنْ شُكر النعمة إفشاءَها كما في حديث آخر، ولما كان من النعَم الظاهرة ما يكون استدراجًا وليس بنعمةٍ حقيقية، وفي حديثٍ آخر أردفه بما يفيد أن الكلام في النعم الحقيقية، فقال: «وكرامته» التي أكرمك بها، وذلك بأن يلبَس ثيابًا تليق بحاله نفاسةً وصفاقة ونظافة؛ ليعرفه المحتاجون للطلب منه، مع رعاية القصد وتجنب الإسراف ذكره المظهر، وكان الحسن يلبس ثوبًا بأربع مائة.

وفرقد السنجي يلبس المسح؛ فلقِيَ الحسن فقال: ما أليَن ثوبك! قال: يا فرقد ليس ليِّنُ ثيابي يبعدُني عن الله، ولا خشونةُ ثوبك تقرِّبُك منه، إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال. فإن قلت: الحديثُ يعارضه حديث: «البس الخشن من الثياب»، وحديث: «تمعددوا واخشوشنوا»؛ قلت -أي العلامة المناوي T-: لا؛ فإن المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- طبيبُ الدِّين، وكان يجيب كلًّا بما يُصلح حالَه؛ فمن وجده يميل إلى الرفاهية والتنعم فخرًا وكبْرًا يأمره بلبس الخشن، ومن وجدَه يقتِّر على نفسه ويبالغ في التقشُّف مع كونه ذا مالٍ؛ يأمره بتحسين الهيئة والملبس، فلا ينبغي لعبدٍ أن يكتم نعمة الله تعالى عليه ولا أن يُظهر البؤسَ والفاقة؛ بل يبالغ في التنظيف وحسن الهيئة وطيِّب الرائحة والثياب الحسنة اللائقة، ولله در القائل:

فرثاث ثوبِك لا يزيدُك زُلفةً عند الإله وأنت عبدٌ مجرِمُ

وبهاءُ ثوبك لا يضرُّك بعد أن  تخشى الإلهَ وتتقي ما يحرُمُ#تنسيق شعر#

وعن أبي الأحوص قال: أتيتُ رسول الله ﷺ وأنا قشف الهيئة، قال: «هل لك من مال؟» قلت: نعم؛ فذكره([1]).


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).

بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.