الحكم فيمن خرج عن دين الله عمدًا
خرج إليهم علي في الجيش الذي كان هيَّأه للخروج إلى الشام؛ فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينج منهم إلا دون العشرة، ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة.. ثم انضم إلى من بقي منهم من مال إلى رأيهم، فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل عليًّا بعد أن دخل عليٌّ في صلاة الصبح، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة، فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له: «النجيلة»..
ثم خرجوا أثناء خلافة عبد الله بن الزبير بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر؛ الذي زاد على معتقد الخوارج أنَّ من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر، ولو اعتقد معتقدهم.
وعظم البلاء بهم، وتوسعوا في معتقدهم الفاسد؛ فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الإبط، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرًا، وإن لم يكن قادرًا فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقًا، وفتكوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب.
فمنهم من يفعل ذلك مطلقًا بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعو أولًا ثم يفتك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم؛ فطاولهم حتى ظفر بهم وتقلل جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: الخوارج صنفان؛ أحدهما يزعم أن عثمان وعليًّا وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفارٌ، والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدًا. وقال غيره: بل الصنف الأول مفرع عن الصنف الثاني؛ لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم. وقال ابن حزم: ذهب نجدة بن عامر من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عذب بغير النار.
ومن أدمن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النار. وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد فأنكر الصلوات الخمس، وقال: الواجب صلاة بالغداة وصلاة بالعشي. ومنهم من جوز نكاح بنت الابن وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون سورة يوسف من القرآن، وأن من قال: «لا إله إلا الله»؛ فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه.
وقال الغزالي -في «الوسيط»، تبعًا لغيره-: في حكم الخوارج وجهان؛ أحدهما: أنه كحكم أهل الردة، والثاني: أنه كحكم أهل البغي. ورجَّح الرافعي الأول، وليس الذي قاله مطَّرِدًا في كل خارجي؛ فإنهم على قسمين: أحدهما من تقدم ذكره، والثاني: من خرج في طلب الملك لا للدعاء إلى معتقده، وهم على قسمين أيضًا: قسم خرجوا غضبًا للدين من أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنة النبوية.
فهؤلاء أهل حق، ومنهم: الحسن بن علي، وأهل المدينة في الحرة، والقراء الذين خرجوا على الحجاج. وقسم خرجوا لطلب الملك فقط؛ سواء كانت فيهم شبهة أم لا، وهم البغاة. وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله([1])، وفي حديث أبي ذر في وصف الخوارج: «هم شرار الخلق والخليقة»([2]).
وفي حديث عائشة قالت: ذكر رسول الله ﷺ الخوارج، فقال: «هم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي»([3])، وعند الطبراني: «هم شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة»([4])، وعند أحمد: «هم شر البرية»([5])، و«شر قتلى أظلتهم السماء وأقلتهم الأرض»([6])، وفي ذكر الخوارج: «شر الخلق والخليقة» يقولها ثلاثًا([7])، و«هم شر الخلق»([8])، وهذا مما يؤيد قول من قال بكفرهم([9]).
واختلف العلماء في تكفير الخوارج؛ فممن كفَّرهم البخاري؛ قرنهم بالملحدين لا بالمتأولين، وأبو بكر بن العربي.. قال: الصحيح إنهم كفار؛ لقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «يمرقون من الدين»، ولقوله: «لأقتلنهم قتل عاد»([10])، وفي لفظ: «ثمود»([11])، وكل منهما إنما هلك بالكفر، ولقوله: «هم شر الخلق»، ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولقوله: «إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى»، ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار؛ فكانوا هم أحق بالاسم منهم.
وممن يرى عدم كفرهم الخطابي؛ تأول كلمة «الدين» في قوله ﷺ: «يمرقون من الدين» بالطاعة؛ أي: أنهم يخرجون من طاعة الإمام لا من الدين الذي أرسل به محمد ﷺ، ورد عليه بالرواية الصحيحة للحديث: «يمرقون من الإسلام»([12]).
كما نقل شيخ الإسلام إجماع الصحابة على عدم كفرهم وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الصحيح الذي قاله الأكثرون المحققون: أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم.
واحتج غير المكفرين بأن الخوارج أتوا من جهة الاتباع لا من جهة الإخلاص، وأن تكفيرهم المسلمين تأوُّلٌ منهم، وأن تكفيرهم بعض الصحابة المشهود لهم بالجنة ليس تكذيبًا لشهادة النبي ﷺ؛ لأنهم لم يعلموا الشهادة فكذبوها، فلم يثبت عليهم الكذب بعكس الروافض.
والحق أن مِنَ الخوارجِ من يكفر ومنهم من لا يكفر، وأنهم جميعًا يعاملون معاملة المسلمين. والحق أن الذين لا يحبهم الله تعالى هم الكافرون منهم؛ إن كان -ولابد- لا يحب إلا المؤمنين، ولا يُدخِل الجنةَ إلا من يحبُّ.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.
(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.