التوبة وفضلها .. سبب من اسباب محبة الله عبده

الثاني: وهو ما أصابه من قبل الناس؛ فله فيه هذه المقامات، ويضاف إليها أربعة أخر:

مقام العفو والصفح. والثاني: مقام سلامة القلب من إرادة التشفِّي والانتقام وفراغه من ألم مطالعة الجناية كل وقت وضيقه بها. والثالث: مقام شهود القدَر، وأنه وإن كان ظالمًا بإيصال هذا الأذى إليك؛ فالذي قدَّره عليك وأجراه على يد هذا الظالم ليس ظالمًا. والمقام الرابع: مقام الإحسان إلى المسِيء ومقابلة إساءته بإحسانك، وفي هذا المقام من الفوائد والمصالح ما لا يعلمُه إلا اللهُ، فإن فات العبد هذا المقام العالي؛ فلا يرضى لنفسه بأخسِّ المقامات وأسفلها.

القسم الثالث: ما يكون ورودُه باختيارِه؛ فإذا تمكَّن منه لم يكن له اختيارٌ ولا حيلة في دفعه، وهذا كالعِشْق أوَّله اختيار وآخره اضطرار، وكالتعرُّض لأسباب الأمراض والآلام التي لا حيلةَ في دفعها بعد مباشرة أسبابها، كما لا حيلة في دفع السُّكْر بعد تناول المسكِر.

وقد وردت محبة الله تعالى للصابرين في القرآن الكريم في آيةٍ واحدةٍ، ووردت في حديثين اثنين، وورود الحكم في كتاب الله أو سنة نبيِّه ﷺ الصحيحةِ ولو مرَّة؛ كافٍ للإيمان به والتسليم فيه، ولا يقلِّل من شأنه ويحقِّر منه.

أولاً- الصبر في القتال:

1- قال الله تعالى: ﴿ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [آل عمران: ١٤٦].

وقد تحدَّثنا عن هذه الآية سابقًا، وشرحنا معاني (ربيُّون، ووهنوا، واستكانوا، وضعفوا)؛ فارجع إليه في (الإحسان) عند الحديث عن الآية (148) من سورة آل عمران. وقد اعتبرنا هناك أن الصبْرَ أحد علائم الإحسان، وقيل: إنه شطر الإيمان، وهو أحد الخيْرين في حال المؤمن. والصبر والصوم -وهو صبر أيضًا- أجرُهما عند الله تعالى بغير حساب، وأخفاه الله تعالى وهو الكريم الذي يظنُّ به سبحانه التوسعة على عباده والإجزال لهم.

وقال القرطبي -في معنى ﴿ﯣ﴾ في هذه الآية-: يعني الصابرين على الجهاد([1])، وقال صاحب «صفوة التفاسير»-: أي يحبُّ الصابرين (على) مقاساةِ الشدائد والأهوال في سبيل الله([2]).

2- وفي حديثِ مطرَّفٍ عن أبي ذرٍّ، عن رسول الله ﷺ: «إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة»، وذكر من الثلاثة الذين يحبُّهم الله تعالى: «رجلًا غزا في سبيل الله صابرًا محتسبًا مجاهدًا فلقِي العدوَّ فقاتل حتى قُتِل»، قال أبو ذرٍّ: وأنتم تجدونه عندكم في كتاب الله المنـزل، ثم قرأ هذه الآية: ﴿ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾([3]).

والصبر مطلوبٌ ومثابٌ عليه على كل مكروهٍ من ترك المعاصي إلى فعل الفرائض والمأمورات إلى مقاساة الابتلاءات والصبر عليها، وكلّها بإذن الله تُقرِّب من محبَّة الله وتحصِّلها، والله أعلى وأعلم.

ثانيًا- الصبر على إيذاء الجيران:

ففي حديث مطرّف السابق عن أبي ذرٍّ، عن رسول الله ﷺ: «إن الله يحبُّ ثلاثةً ويبغض ثلاثة»، وذكر من الثلاثة الذين يحبُّهم اللهُ تعالى «رجلًا له جار سوء يؤذيه فيصبِر على إيذائه حتى يكفِيَه الله إيَّاه؛ إما بحياةٍ أو موت»([4]).

وهذا من القسم الثالث من أقسام الصبر؛ أي الصبر على الابتلاء، ولا شكَّ أن خصوص الجبران في الحديث لما لهم على المسلم من حقوق الجيرة المعلومة، ولما فيه من ملازمتِهم الكثيرة للمسلم؛ إذ هم مقيمون معه، فالإسلام لم يكتَفِ بالحضِّ على الإحسان إليهم، بل ندَب إلى الصبر على أذاهم، ولا شكَّ أن في هذا خيرًا للدعوة الإسلامية لعلها تنتشر، وتربية للمسلم لعل نفسَه تزكو، وأخذًا بيد المسيء لعلَّه يرتدِع عن الذنوب أو يُسلِم إن كان غير مسلم، وقد طبَّق رسولُ الله ﷺ هذا الحديثَ على نفسِه؛ فصبَر على أذى اليهوديِّ الذي كان يضع القاذورات أمام بابِه حتى إذا ما مرِض هذا؛ عادَه النبيُّ ﷺ فأسلم، فكان خيرًا للدعوة ولرسول الله وللجار.

خلاصة هذا السبب:

جاء الصبر الذي يحبُّ الله فاعليه في هذا السبب بمعنيين:

الأول: الصبْرُ في قتال الكافرين؛ فإن هذا موطنُ فتنةٍ عظيمة، من صبر فيها نال إحدى الحسنيين: النصرَ أو الشهادة.

والثاني: الصبْرُ على الجيران فإنهم قد يؤذونك؛ ولما كان الجيران أقربَ الناس إليك وربما لحقَك منهم أذًى، وكانت حقوقُهم عليك عظيمةً؛ فقد جعل الله تعالى الصبْرَ على أذاهم سببًا لمحبته سبحانه إيَّاكَ، رزقك اللهُ إيَّاها.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.

بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.