التطهر .. السبب العاشر لتحصيل محبة الله عبدًا
معنى التَّطَهُّرِ، وأنواعُه
قال الإمام الراغب: طهَر([1])، والفتح أقيس لأنها خلافُ طمثتْ؛ ولأنه يقال: طاهرة وطاهر؛ مثل: قائمة وقائم، وقاعدة وقاعد. والطهارة ضربان: طهارةُ جسم وطهارة نفس، وحُمِل عليهما عامَّةُ الآيات. يقال: طهَّرته فطَهُر وتطَهَّر واطَّهَّر، فهو طاهر ومتَطَهِّر.
قال تعالى: ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ [المائدة: ٦]؛ أي استعملوا الماء أو ما يقوم مقامَه، وقال: ﴿ﯞ ﯟ﴾ [البقرة: ٢٢٢]؛ فدل باللفظين على أنه لا يجوز وطؤُهُنَّ إلا بعد الطهارة والتطهير([2]).
ويؤكد قراءة من قرأ: (حتى يطهرن)([3]) أي: يفعلن الطهارة التي هي الغسل. قال تعالى: ﴿ﯞ ﯟ﴾ [البقرة: ٢٢٢]؛ أي: التاركين للذنب والعاملين للصلاح، وقال: ﴿ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾ [التوبة: ١٠٨]، و﴿ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ﴾ [الأعراف: ٨٢]، و﴿ﮃ ﮄ ﮅ﴾ [التوبة: ١٠٨]؛ فإنَّه يعني تطهير النفس. و﴿ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ [آل عمران: ٥٥]؛ أي: مخرجُك من جُملتهم ومنـزِّهُك أن تفعل فعلهم، وعلى هذا: ﴿ﮏ ﮐ﴾ [الأحزاب: ٣٣]، ﴿ﮩ ﮪ﴾ [آل عمران: ٤٢]، ﴿ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ﴾ [البقرة: ٢٣٢]، ﴿ﯨ ﯩ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، ﴿ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾ [الواقعة: ٧٩]؛ أي إنه لا يبلُغ حقائق معرفته إلا من طهَّر نفسه وتنقى من درن الفساد([4]).
وقوله: ﴿ﭜ ﭝ ﭞ﴾ [الأعراف: ٨٢]، فإنهم قالوا ذلك على سبيل التهَكُّم حيث قال لهم: ﴿ﮯ ﮰ ﮱ﴾ [هود: ٧٨]، وقوله تعالى: ﴿ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ [النساء: 57، والبقرة: 25]؛ أي مطهراتٌ من درن الدنيا وأنجاسها([5])، وقيل: من الأخلاق السيئة بدلالة قوله: ﴿ﮨ ﮩ﴾ [الواقعة: ٣٧]، وقوله في صِفَة القرآن: ﴿ﮇ ﮈ﴾ [عبس: ١٤]، وقوله: ﴿ﯖ ﯗ﴾ [المدثر: ٤] ؛قيل: معناه: نفسك فنقِّها من المعايب.
وقوله: ﴿ﮀ ﮁ﴾ [الحج: ٢٦]، وقوله: ﴿ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾ [البقرة: ١٢٥] فحثَّ على تطهير الكعبة من نجاسة الأوثان، وقال بعضهم: في ذلك حثٌّ على تطهير القلب لدخول السكينة فيه المذكورة في قوله: ﴿ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ [الفتح: ٤].
والطّهُور قد يكون مصدرًا فيما حكى سيبويه([6]) في قولهم: تطهَّرتُ طهورًا وتوضَّأْت وضُوءًا؛ فهذا مصدر على فعول، ومثله: وقدت وقودًا، ويكون اسمًا غير مصدر كالفطور في كونه اسمًا لما يُفْطَر به، ونحو ذلك الوجور والسّعوط والذّرور([7])، ويكون صفة كالرَّسُول، ونحو ذلك من الصفات، وعلى هذا: ﴿ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾ [الإنسان: ٢١] تنبيهًا أنه بخلاف ما ذكره في قوله: ﴿ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ﴾ [إبراهيم: ١٦].
﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾ [الفرقان: ٤٨]. قال أصحاب الشافعي I: الطهور بمعنى المطهر، وذلك لا يصحُّ من حيث اللفظ؛ لأن فَعولًا لا يبنى من أفعل وفَعُل، وإنما يُبنى ذلك من فعل([8]).
وقيل: إن ذلك اقتضى التطهير من حيث المعنى، وذلك أن الطاهر ضربان: ضربٌ لا يتعداه الطهارة، كطهارة الثوب؛ فإنه طاهر غير مطهَّر به، وضرب يتعداه فيجعل غيره طاهرًا به، فوصف اللهُ تعالى الماءَ بأنه طهور تنبيهًا على هذا المعنى([9]).
وقال ابن الأثير: طهر فيه: «لا يَقْبلُ اللهُ صلاةً بغير طُهُور»؛ الطُّهُور بالضم: التَّطَهُّر، وبالفَتح الماءُ الذي يُتَطهَّر به؛ كالوُضُوء والوَضوء، والسُّحُور والسَّحور. وقال سيبويه: الطَّهور بالفتح يقَع على الماء والمصْدَر مَعًا؛ فَعَلى هذا يجوز أن يكونَ الحديث بفتح الطاء وضمِّها، والمرادُ بهما التطهُّر. وقد تكرر لفظُ الطَّهارة في الحديث على اختلافِ تصرُّفِه.
يقال: طَهَر يَطْهُر طُهْرًا فهو طاهِر، وطَهُر يَطْهُر وتَطَهَّر يَتَطَهَّر تَطهُّرًا فهو مُتَطهِّر. والماء الطَّهُور في الفِقْه: هو الذي يَرفَعُ الحدَث ويُزيل النَّجَسَ؛ لأن فَعُولًا من أبْنية المُبَالغة، فكأنَّه تنَاهى في الطَّهَارة. والماءُ الطَّاهرُ غيرُ الطَّهُور: هو الذي لا يَرْفَع الحدَث ولا يُزِيل النَّجَسَ؛ كالمُسْتَعْمَل في الوُضوء والغُسْل، ومنه حديث ماء البحر: «هو الطَّهُورُ ماؤُه الحِلُّ مَيْتَتُه»([10])؛ أي المُطَهِّر([11]).
ونخلُص من قول الإمامين بجملة معانٍ، هي:
1- الطهر والطهارة والتطهر والطهور؛ مشتقات من أصلٍ واحد هو «طهر»، وتدور كلها حول: النظافة، وتنقية الخبث الحسي الملموس والمعنوي المدرك بالعقل والمنعكس في الأفعال النافعة النقيَّة.
2- بين هذه المشتقات خلافٌ؛ حيث يختص كل مشتق بمعنًى في التطهر، وهو أصلُها جميعًا؛ فالطهر اسمٌ جامع لكل شيءٍ نقيٍّ من الخبث والنجس، وأيضًا بمعنى الطِّيبة؛ فالطاهر: الطيِّب، والطهارة: النظافة وتُطلق على الختان.
والطهارة شرطٌ لممارسة أركان الدين كالصلاة والصيام والحج؛ لكن طهارةَ الصلاة يشترط فيها أن تكون طهارة من الحدثين الأكبر والأصغر، وطهارة الحج([12]) والصوم يشترط فيها الطهارة من الحدث الأكبر فقط (كالجنابة والحيض والنفاس). والطهارة أيضًا الزكاة؛ أي طهارةُ المال من حقِّ من لهم فيه حقٌّ.. قال تعالى: ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.
(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.