التخلص من إثم ودنس الجماع المحرم

كما تجب الطهارة على من دخل الإسلام لتوِّه؛ لحديث فاطمة بنت الخطاب مع أخيها عمر L، فقد اشترطت عليه الطهارة حتى يمس الصحيفة التي فيها قرآن([1])، وبين العلماء خلافٌ في حكم طهارة الداخل في الإسلام لتوِّه؛ بحيث يغتسل، ويتوضأ، ويختتن إن كان غير مختتن، ويدور خلافهم ما بين استحباب هذه الأمور ووجوبها([2]).. إلخ.

3- أما التَّطَهُّر فهو المجاهدة ضد الخبائث بكل أنواعها.. الحسية؛ كالبول والغائط والجنابة والحيض والنفاس، وما يَطال الثوب والجسم من نجاساتٍ في الطريق ونحوه، وكذلك الخبائث الباطنية المعنوية؛ كالكبر والحسد والرياء والشركيات والبدع بسائر أصنافها وأنواعها، والتطهر محل محبة الله تعالى، وهو درجةٌ أعلى من الطهر والطهارة؛ لأنَّ كل واحد من هذين مرةً واحدة.

أما هذا فيوالى بينه، ويحدثه المرء مرَّة بعد مرة.. كلما أصابته نجاسة أو خَبَث سارع بالتطهر منه بالغسل والمسح والصعيد الطيِّب، والاستغفار والتوبة والذكر ومحاسبة النفس وتنقيتها، وهذا التطهر بمعنى جهاد النفس؛ بل هو أعمُّ منه؛ حيث يشمل أيضًا التطهر المادي الذي لا يشمله جهاد النفس الذي قيل عنه في الحديث الضعيف: جهاد أكبر([3]).

4- وأما الطَّهُور فهو الشيء المطهر به؛ كالماء، وخُصَّ في الفقه بماء الوضوء؛ فيقال: جئت النبي ﷺ بطَهور؛ أي: بماء ليتوضأ.

5- والطُّهْر ضد لكل نجس وخبث وحدث وطمث ورجس وإثم ورذيلة وخسة وقبح. فهو اسم جامع لكل طيِّب وفاضل ونقي وشريف.. إلخ.

6- والتطهر هو فعل الطهر؛ فالمتوضئ متطهر من الحدث الأصغر؛ والمغتسل متطهر من الحدث الأكبر، والمستغفر متطهر من الإثم الذي اقترفه.. إلخ.

أولاً- التخلُّص من إثم ودنس الجماع المحرَّم:

يقول عز مِن قائل: ﴿ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ [البقرة: ٢٢٢].. من خلال المأثور الصحيح في تفسيرها يمكن استنباط الآتي([4]):

1- سبب نزول الآية: روى أحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في «ناسخه»، وابن حِبَّان، والبيهقي في «سننه» عن أنس: «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت.

ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت؛ فسئل رسول الله ﷺ عن ذلك، فأنزل الله: ﴿ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ الآية؛ فقال رسولُ الله ﷺ: «جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيءٍ إلَّا النكاح».

فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجلُ أن يَدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه! فجاء أسيدُ بنُ حضير وعبَّاد بن بشر فقالا: يا رسول الله! إن اليهود قالت كذا وكذا، أفلا نجامعُهنَّ؟ فتغيَّر وجه رسول الله ﷺ حتى ظننا أن قد وجَد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هديَّة من لبن إلى رسول الله ﷺ، فأرسل في أثرهما فسقاهما؛ فعرفا أنه لم يجد عليهما»([5]).

وأخرج النسائي والبزار، واللفظ له، عن جابر عن رسول الله ﷺ في قوله تعالى: ﴿ﮠ ﮡ ﮢ﴾، قال: «إن اليهود قالوا: من أتى المرأة من دُبُرِها كان ولدُه أحولَ، وكان نساء الأنصار لا يدعن أزواجَهُنُّ يأتونهن من أدبارهن، فجاؤوا إلى رسول الله ﷺ فسألوه عن إتيان الرجل امرأتَه وهي حائض، فأنزل الله: ﴿ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾»([6]).

2- اعتزال الحائض الذي في قوله تعالى: ﴿ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾؛ أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: ﴿ﮤ ﮥ ﮦ﴾ قال: الأذى الدم، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: ﴿ﮤ ﮥ ﮦ﴾، قال: هو قذر. وأخرج ابن المنذر عن أبي إسحاق الطالقاني، عن محمد بن حمير، عن فلان بن السري؛ أن رسول الله ﷺ قال: «اتقوا النساء في المحيض؛ فإن الجذام يكون من أولاد الحيض»([7]).

3- معنى الحرث: في قوله تعالى: ﴿ﯡ ﯢ﴾ [البقرة: ٢٢٣]: إنما الحرث موضعُ الولد.

4- منع إخراج الحائض من البيت: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس؛ أن القرآن نزل في شأن الحائض والمسلمون يُخرِجونهن من بيوتهن كفعل العجم، فاستفتوا رسول الله ﷺ في ذلك، فأنزل الله: ﴿ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾، فظن المؤمنون أن الاعتزال كما كانوا يفعلون بخروجهن من بيوتهن، حتى قرأ آخر الآية ففهم المؤمنون ما الاعتزال؛ إذ قال الله: ﴿ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ﴾([8]).

5- مخالفة اليهود والمشركين في نكاحهم: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة، قال: كان أهل الجاهِليَّة لا تساكنهم حائضٌ في بيت، ولم يؤاكلوهم في إناء؛ فأنزل الله الآية في ذلك، فحرّم فرجها ما دامت حائضًا وأحلَّ ما سوى ذلك([9]). وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبي ﷺ قال لها وقد حاضت: «إن هذا أمرٌ كتبَه الله على بنات آدم»([10]).

وأخرج عبد الرزاق في «المصنف» وسعيد بن منصور ومسدد في «مسنده» عن ابن مسعود قال: كان نساء بني إسرائيل يُصلِّين مع الرجال في الصف، فاتخذن قوالب يتطاولن بها لتنظر إحداها إلى صديقها، فألقى الله عليهنَّ الحيض ومنعهن المساجد، وفي لفظ: فألقى عليهن الحيض فأُخرن.. قال ابن مسعود: فأخروهن من حيث أخرهنَّ الله. وأخرج عبد الرزاق عن عائشة قالت: كان نساء بني إسرائيل يتخذن أرجُلًا من خشب يتشوَّفْن للرجال في المساجد، فحرّم الله عليهن المساجد وسُلِّطت عليهن الحيضة([11]).

6- اسم الحيض: وأخرج أحمد والبيهقي في «سننه» عن يزيد بن بابنوس، قال: قلت لعائشة: ما تقولين في العراك؟ قالت: الحيض تعنون؟ قلنا: نعم؛ قالت: سمُّوه كما سماه الله([12]).

7- مُدَّة الحيض: وأخرج الدارقطني عن عطاء بن أبي رباح قال: أدنى وقت الحائض يوم([13])، وأخرج الدارقطني عن عطاء قال: أكثر الحيض.

خمسة عشر([1])، وأخرج الدارقطني عن شريك وحسين بن صالح قال: أكثر الحيض خمسة عشر([2])، وأخرج الطبراني عن شريك قال: عندنا امرأةٌ تحيض خمسةَ عشر من الشهر حيضًا مستقيمًا صحيحًا([3])، وأخرج الدارقطني عن الأوزاعي قال: عندنا امرأةٌ تحيضُ غدوةً وتطهر عشية([4]).

8- كيف يباشِرُ الحائض؟ أخرج أبو داود والبيْهقي عن بعض أزْوَاج النبي ﷺ «أن النبيَّ ﷺ كان إذا أراد من الحائض شيئًا ألقى على فرجِها ثوبًا ثم صنَع ما أراد»([5])، وأخرج عبد الرزَّاق وابن جرير والنحاس في «ناسخِه» والبيهقي عن عائشة، أنها سُئِلَت: ما للرجل من امرأتِه وهي حائضٌ؟ فقالت: كلّ شيءٍ إلا فرجها([6]).

وأخرج ابنُ أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن عائشة، قالت: «كانت إحدانا إذا كانت حائضًا فأرادَ النبيُّ ﷺ أن يباشرَها؛ أمرَها أن تتَّزِر في فوْرِ حَيْضتها ثم يباشرُها، قالت: وأيُّكم يملك أربَه كما كان رسول الله يملِك أربه؟»([7]).

وأخرج ابنُ أبِي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داودَ والبيهقي عن ميمونةَ، قالت: «كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا أراد أن يباشِر امرأةً من نسائه أمرَها فاتَّزَرت وهي حائض»([8]). وأخرج ابنُ أبي شيبةَ وأبو داود والنسائي عن ميمونة: «أن رسول الله ﷺ كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض، إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين محتجزة به»([9]).

وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة، قالت: «كان رسول الله ﷺ إذا حضت يأمرني أن أتزر ثم يباشرني»([10]).

وأخرج أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن سعدٍ الأنصاريِّ: «أنه سأل رسول الله ﷺ: ما يحلُّ لي من امرأتي وهي حائضٌ؟ فقال: «لك ما فوق الإزار»([11]). وأخرج مالك والشافعي والبيْهقي عن نافعٍ عن عبدِ الله بنِ عمر أرسل إلى عائشةَ يسألُها: هل يباشر الرجلُ امرأتَه وهي حائض؟ فقالت: لتشدّ إزارَها على أسفَلِها ثم ليباشِرْها إن شاء([12]).

9- عِبادة زوج الحائض: أخرج أبو داود والنسائي والبيهقي عن عائشة، قالت: «كنت أنا ورسول الله ﷺ نبيت في الشعار الواحد وأنا حائض طامث، فإن أصابه مني شيء؛ غسل مكانه لم يعْدُه، وإن أصاب ثوبه مني شيء؛ غسل مكانه لم يعْدُه، وصلَّى فيه»([13]).

10- الحياة مع الحائض: أخرج البخاريُّ ومسلمٌ والنسائيُّ عن أم سلمة، قالت: «بينا أنا مع النبي ﷺ مضطجِعَةٌ في خميصة إذ حِضت، فانسللت فأخذت ثيابَ حَيْضتي، فقال: «أنفست؟» قلت: نعم، فدعاني فاضطجعتُ معه في الخميلة»([14])،

وأخرج ابن ماجه عن أم سلمة قالت: «كنت مع رسول الله ﷺ في لحافِه، فوجدت ما تجد النساء من الحيْضة فانسللت من اللِّحاف؛ فقال رسول الله ﷺ: «أنفِسْتِ؟» قلتُ: وجدت ما تجدُ النساءُ من الحيضة؛ قال: «ذاك ما كُتِب على بنات آدم»، قالت: فانسللْتُ فأصلحْتُ من شأنِي ثم رجعت، فقال رسول الله ﷺ: «تعالَيْ فادخُلي معي في اللِّحاف»، قالت: فدخلتُ معه»([15]).

وأخرج ابن ماجه عن معاوية بن أبي سفيان؛ أنه سألَ أمَّ حبيبةَ: كيف كنتِ تصنعين مع رسول الله ﷺ فِي الحيض؟ قالت: كانت إحدانَا في فوْرِها أوَّل ما تحيضُ تشدُّ عليها إزارًا إلى أنصاف فخِذَيها ثم تضطجع مع رسول الله ﷺ([16]). وأخرج الترمذيُّ وصححه عن عبد الله بن سعدٍ قال: سألتُ النبيَّ ﷺ عن مؤاكلة الحائض؟ فقال: «واكلها»([17]).

وفي هذه الآية سببان لمحبَّة الله تعالى عبدَه.. الأول: «التوَّابيَّة»، وستأتي بعد قليلٍ إن شاءَ الله.

والثاني: «التَّطَهُّر»، ولم نَقُلِ: الطُّهْر أو الطَّهَارَة؛ لأن الاسم في الآية مشتقٌّ من التطهر؛ يقال: تَطَهَّر تطهُّرًا فهو متَطهِّرٌ وهم متطهرون، وطَهُر طُهْرًا فهو طاهِرٌ وهم طاهرون، والوارد الأوَّل لا الثاني، وقد بيَّنَّا الفرق بينهما، ومنه أن الطاهر طاهرٌ من تلقاء نفسه وعلى الدوام؛ كالماء الجاري والصعيد الطيِّب، وليست هذه حال الإنسان الذي يطاله الخبث الماديّ كالحدثين الأصغر والأكبر.

والخبث المعنوي كالذنوب والآثام؛ لِذا عليه أن يتطهر منها إذا وقعت وهي كثيرة الوقوع؛ فيكون كثير التَّطهُّر؛ ثم إن أحكام الله سبحانه مبنيَّةٌ على أفعال العباد مصحوبةً بالتوجه إليه سبحانه، وهكذا التطهر، والله أعلم.

وفي الآية التي معنا حكم الله تعالى في علاقة الزوجين؛ حيث نهى تعالى الرجل عن إتيان زوجه حال حيضها؛ كونه أذًى مضرًّا، وأمرها بالتطهر، وله شرطان -على ما حكى العلماء-: الأوَّل: أن تطهُر بانقطاع الدم، والثاني: أن تطهُر بالاغتسال منه؛ على أشهر الأقوال وأصحِّها، والمعمول به عند المسلمين اليوم. ثم أرشد الله سبحانه بأن يكون الإتيان (الوطء) من أيَّة جهة، وعلى أيِّ وضع؛ شريطةَ أن يكون في القُبُل لا في الدبر؛ أي في الفرج (موضع الولد) على القول المستفِيض.

وقد كُذِبَتْ رواياتٌ على بعض الصحابة والتابعين، أكثر من قيلت عنهم كذَّبُوها بأنفسهم؛ كابن عمر ونافعٍ وسعيد بن المسيّب ومالكٍ وغيرهم؛ حيث نسب إليهم تجويز الوطء في الدبر.

فقوله: ﴿ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾.. قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ وغير واحد: يعني الفرج. وفيه دلالة حينئذٍ على تحريم الوطء في الدُّبر. وقال أبو رَزين وعِكْرمة والضَّحَّاك وغير واحد: ﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ يعني: طاهراتٍ غيرَ حُيَّض؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾؛ أي: من الذنب وإن تكرَّر غشْيانه ﴿ﯞ ﯟ﴾؛ أي: المتنزِّهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نُهوا عنه من إتيان الحائض، أو في غير المأتى([18]).

وقوله تعالى: ﴿ﯞ ﯟ﴾، وإن بُنِي على ما سبَق في الآية من المعاشرة بين الزوجين، إلا أن التطهُّر الذي يحبُّه الله ليس بالضرورة هذا فقط.. قال السعدي T: ﴿ﯞ ﯟ﴾ أيِ: المتنـزِّهين عن الآثام، وهذا يشتمل التطهُّرَ الحسيَّ من الأنجاس والأحداث. ففيه مشروعية الطهارة مطلقًا؛ لأن الله تعالى يحبُّ المتَّصِف بها، ولهذا كانت الطهارة مطلقًا شرطًا لصحة الصلاة والطَّواف وجواز مسِّ المصحف. ويَشمَل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة والصفات القبيحة والأفعال الخسيسة. انتهى كلام السعدي.

ثانيًا- التطهر من النفاق وأمراض النفس:

يقول تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ * ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾ [التوبة: ١٠٧، ١٠٨].

والمطَّهِّرون في هذه الآية يعني المُتَطَهِّرِينَ.. أدغم فيها المثلين التاء مع الطاء فصارا طاءً مشدَّدة ولا تُغَيِّرُ المعنى.

والمطَّهِّرون هؤلاء أناسٌ كانوا يقيمون بمسجد قباء، أو هم الأنصار، على خلافٍ فيه، وكل الأدلة في سكَّان قباء وفي الأنصار صحيحة، ويبدو أنهم مجموعةٌ من الأنصار كانوا يقيمون في مسجد قباء. إلا أنه ثمَّة خلافٌ آخر حول المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم: هل هو مسجد قباء أم مسجدُ رسولِ الله ﷺ؛ فكلاهما أسِّسَ على التقوى من أول يومٍ، وكلاهما بناه النبيُّ ﷺ، وكلاهما قامَ فيه، ومن الأحاديث في مسجد رسول الله ﷺ.. قال أبو سعيد الخدري I: قال رسول الله ﷺ: «هو مسجدي هذا»([1]). وفي مسجد قباء، عن أبي هريرة I قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: ﴿ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾. قال: كانوا يستنجون بالماء فنـزلت فيهم هذه الآية([2]).

وقال السعدي -في تفسيرها-: وسألهم النبي ﷺ بعدما نزلت هذه الآية في مدحِهم عن طهارتهم، فأخبروه أنهم يُتبعون الحجارة الماء؛ فحمدهم على صنيعهم، وقال القرطبي: ثبَت أن النبي ﷺ (كان يحمل الماء معه في الاستنجاء؛ فكان يستعمل الأحجار تحفيظًا والماء تطهُّرًا). قال ابن العربي: وقد كان علماء القيروان يتخذون في متوضأتهم أحجارًا في تراب ينقون بها ثم يستنجون بالماء.

فيستخلص من الآية -وبالمقارنة مع حال متخذي مسجد الضرار- أن هؤلاء المتطهرين كانوا على العكس منهم تمامًا؛ فهم اتخذوا مسجدهم نفعًا لا ضرارًا، وإيمانًا لا كفرًا، وتجميعًا بين المؤمنين لا تفريقًا بينهم، وإرصادًا لمن حارب مع الله ورسوله لا لمن حاربهما، وقد أرادوا الحسنى بالفعل والله شهد بصدقهم، وزكاهم وأحبَّهم وأعلى ذكرهم في العالمين. وهذا -والله أعلم- هو معنى ﴿ﭿ ﮀ ﮁ﴾. ثم إنه معلوم أن المحترز من الأحداث محترز أكثر من الشرِّ والضُّرِّ والكفر والتفريق وسائر العظائم والكبائر.

خلاصة هذا السبب:

بجمع آيتي البقرة والتوبة يتبيَّن أن التطهر من كل نجاسةٍ وحدث وخبث.. ظاهرًا كان أو باطنًا.. هو ما يحبُّه الله تعالى، وما يحبُّ فاعلَه.. نسألُ اللهَ العلي الكبير أن نكون من المتطهرين ومن أحبائه، إنه نعم المولى ونعم المجيب.


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.
(11) «الأدب المفرد بالتعليقات» لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبي عبد الله (المتوفى 256هـ) تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مستفيدًا من تخريجات وتعليقات العلامة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني ط1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض 1419هـ.
(12) «الأربعين الصغري» لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني أبي بكر البيهقي (المتوفى 458هـ) تحقيق: أبي إسحاق الحويني الأثري ط1 دار الكتاب العربي 1408هـ.
(13) «الأربعين النووية» لأبي زكريا محيي الدين النووي (المتوفى 676هـ) تحقيق: قصي محمد نورس الحلاق وأنور بن أبي بكر الشيخي ط1 دار المنهاج للنشر والتوزيع (ط. ت).
(14) «إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم» لأبي السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى 982هـ) ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت (د. ت).
(15) «إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل» لمحمد ناصر الدين الألباني (المتوفى 1420هـ) تحقيق: زهير الشاويش ط2 المكتب الإسلامي - بيروت 1405هـ.
(16) «الاستذكار» لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى 463هـ) تحقيق: سالم محمد عطا ومحمد علي معوض ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1421هـ.
(17) «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى 463هـ) تحقيق: علي محمد البجاوي ط1 دار الجيل - بيروت 1412هـ.
(18) «أسد الغابة في معرفة الصحابة» لأبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري عز الدين ابن الأثير (المتوفى 630هـ) تحقيق: علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود ط1 دار الكتب العلمية 1415هـ.

بقلم / محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.