إبتعد عن التجمل .. الحصول على محبة الله تعالى
سابعًا: التجمُّل ..
عن عبد الله بن مسعود I، عن النبي ﷺ قال: «لا يدخلُ الجنَّةَ من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، قال رجلٌ: إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنة، قال: «إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكِبْر بطَرُ الحق وغمْطُ الناس»([1]).
وعن النبي ﷺ قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مِثقال ذرَّة من كبر، ولا يدخل النار يعني من كان في قلبه ذرة من إيمان»، فقال له رجل: إنه يعجبني أن يكون ثوبي حسنًا ونعلي حسنًا؛ قال: «إن الله يحب الجمال؛ ولكن الكبر من بَطر الحق وغمَص الناس»([2]).
وروى مسلم عن عبد الله أيضًا، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «لا يدخل النارَ أحدٌ في قلبه مثقال حبَّة خردلٍ من إيمان، ولا يدخلُ الجنةَ أحد في قلبه مثقال حبَّة خردل من كبرياء»([3])، وقوله ﷺ: «وغمط الناس» في مسلم والبخاري وأبي داود؛ «غمط»([4]) -بالطاء- وفي الترمذي وغيره: «غمص» -بالصاد- وهما بمعنًى واحد، ومعناه احتقارُهم.. يقال في الفعل منه: غمَطه -بفتح الميم- يغمِطه -بكسرها- وغمِطه -بكسر الميم- يغمَطه -بفتحها-. أما «بطَر الحق» فهو دفعه وإنكاره ترفُّعًا وتجبُّرًا.
وأما قوله ﷺ: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كِبر»، فقد اختُلِف في تأويله؛ فذكر الخطَّابي فيه وجهين.. أحدهما: أن المراد التكبر عن الإيمان فصاحبُه لا يدخل الجنة أصلًا إذا مات عليه، والثاني: أنه لا يكون في قلبه كبْرٌ حال دخولِه الجنة؛ كما قال الله تعالى: ﴿ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ﴾ [الأعراف: ٤٣]، وهذان التأويلان فيهما بُعد؛ فإن هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف.
وهو الارتفاع على الناس واحتقارُهم ودفعُ الحقِّ، فلا ينبغي أن يُحمل على هذين التأويلين المخرِجَين له عن المطلوب؛ بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحقِّقين: أنه لا يدخل الجنة دون مجازاةٍ إن جازاه، وقيل: هذا جزاؤه لو جازاه، وقد يتكرَّم بأنه لا يجازيه بل لابد أن يدخل كلُّ الموحِّدين الجنَّة، إما أوَّلًا وإما ثانيًا بعد تعذيب بعض أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرِّين عليها، وقيل: لا يدخلها مع المتقين أوَّل وهلة.
وأما قوله ﷺ: «لا يدخل النار من في قلبه مثقال حبَّةٍ من خردل من إيمان»، فالمراد به دخول الكفار وهو دخول الخلود، وقوله ﷺ: «مثقال حبَّة» هو على ما تقدم وتقرر من زيادة الإيمان ونقصه.
وأما قوله: «قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا»، فهذا الرجل هو مالك بن مرارة الرهاوي؛ قاله القاضي عياض، وأشار إليه أبو عمر بن عبد البر -رحمهما الله تعالى- وقيل: معاذ بن جبل؛ ذكره ابن أبي الدنيا في «كتاب الخمول والتواضع»، وقيل: ذكره أبو عبيد في «غريب الحديث»، وقيل: عبد الله بن عمرو بن العاص؛ ذكره معمر في «جامعه»، وقيل: خريم بن فاتك؛ هذا ما ذكره ابن بشكوال([5]).
وقال المباركفوري: «إنه يعجبُنِي أن يكون ثوبي حسنًا ونعلي حسنًا»؛ أي: من غير أن أُراعِي نظرَ الخلق، وما يترتب عليه من الكبر والخيلاء والسُّمعة والرياء، ثم النعل ما وُقِيت به القدم، ولعل سبب ذلك السؤال ما ذكره الطيبي أنه لما رأى الرجلُ العادة في المتكبرين لبس الثياب الفاخرة ونحو ذلك سألَ ما سأل؛ قال مجيبًا له: «إن الله يحبُّ الجمال»، وفي رواية: «إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال»؛ أي: حسن الأفعال كامل الأوصاف، وقيل: أي مجمِّل، وقيل: جليل، وقيل: مالك النور والبهجة.
وقيل: جميل الأفعال بكم والنظر إليكم.. يكلِّفكم اليسير ويعين عليه، ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه. وقال المناوي: «إن الله جميل» أي: له الجمال المطلق؛ جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال([6]). «يحب الجمال» أي التجمل منكم في الهيئة أو في قلة إظهار الحاجة لغيره، والعفاف عن سواه، انتهى. «ولكن الكبر»؛ أي: ذا الكبر بحذف المضاف؛ كقوله تعالى: ﴿ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ﴾ [البقرة: ١٧٧]، «من بطرَ الحق»؛ أي: دفعه ورده، «وغمصَ الناس»؛ أي احتقرهم ولم يرهم شيئًا، من غمصْته غمصًا، وفي رواية: «الكبر بطر الحق وغمط الناس».. قال -في «المجمع»-: الغمط الاستهانة والاستحقار، وهو كالغمص، وأصل البطر شدة الفرح والنشاط، والمراد هنا قيل: سوء احتمال الغني، وقيل: الطغيان عند النعمة.
والمعنيان متقاربان، وفي «النهاية»: بطر الحق هو أن يجعل ما يجعله الله حقًّا من توحيده وعبادته باطلًا، وقيل: هو أن يتجبَّر عند الحق فلا يراه حقًّا، وقيل: هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله، وقال التوربشتي: وتفسيره على الباطل أشبه لما ورد في غير هذه الرواية: «إنما ذلك من سفه الحق وغمص الناس»([7]) أي: رأى الحق سفَهًا([8]).
وصف الله تعالى بـ«جميل»، ومذاهب العلماء فيه:
قال الإمام النوويُّ: وقوله ﷺ: «إن الله جميلٌ يحب الجمال» اختلفوا في معناه؛ فقيل: إن معناه أن كلَّ أمره E حسن جميل، وله الأسماء الحسنى وصفات الجمال والكمال، وقيل: جميلٌ بمعنى مجمل؛ ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع، وقال الإمام أبو القاسم القشيري T: معناه جليل، وحكى الإمام أبو سليمان الخطَّابي أنه بمعنى ذي النور والبهجة؛ أي مالكهما، وقيل: معناه: جميل الأفعال بكم باللطف والنظر إليكم، يكلِّفكم اليسير من العمل ويعين عليه، ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه، واعلم أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد، وورد أيضًا في حديث الأسماء الحسنى وفي إسناده مقال، والمختار جواز إطلاقه على الله تعالى، ومن العلماء من منعَه.
وقال الإمام الجويني T: ما ورد الشرع بإطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه، وما منع الشرع من إطلاقه منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقضِ فيه بتحليلٍ ولا تحريم؛ فإن الأحكام الشرعية تُتلقَّى من موارد الشرع، ولو قضَيْنا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكمًا بغير الشرع؛ قال: ثم لا يشترط في جواز الإطلاق ورود ما يقطع به الشرع؛ ولكن ما يُقتضى للعمل
وإن لم يوجب العلم فإنَّه كافٍ؛ إلا أنَّ الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل ولا يجوز التمسك بهن في تسمية الله تعالى ووصفِه، هذا كلام إمام الحرمين، ومحلُّه من الإتقان والتحقق بالعلم مطلقًا وبهذا الفن خصوصًا؛ معروفٌ بالغاية العليا، وأما قولُه: لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم. لأن ذلك لا يكون إلا بالشرع، فهذا مبنيٌّ على المذهب المختار في حكم الأشياء قبل ورود الشرع؛ فإن المذهب الصحيح عند المحقِّقين من أصحابِنا: أنه لا حكم فيها لا بتحليل ولا تحريم ولا إباحة ولا غير ذلك؛ لأنَّ الحكم عند أهل السنة لا يكون إلا بالشرع.
وقال بعض أصحابنا: إنها على الإباحة، وقال بعضهم: على التحريم، وقال بعضهم: على الوقف لا يعلم ما يقال فيها. والمختار الأوَّل، والله أعلم. وقد اختلف أهل السنة في تسمية الله تعالى ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يرد به الشرع ولا منعه؛ فأجازه طائفة، ومنعه آخرون إلا أن يرِد به شرع مقطوع به من نص كتاب الله أو سنة متواترة([1]) أو إجماع على إطلاقه.
فإن ورد خبَرٌ واحد فقد اختلفوا فيه؛ فأجازه طائفة وقالوا: الدعاء به والثناء من باب العمل، وذلك جائز بخبر الواحد. ومنعه آخرون لكونه راجعًا إلى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على الله تعالى، وطريق هذا القطع؛ قال القاضي: والصواب جوازُه لاشتماله على العمل، ولقول الله تعالى: ﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾ [الأعراف: ١٨٠]، والله أعلم([2]).
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).