التثاؤب والكسل .. الاضطجاع على البطن .. مانع من موانع محبة الله عبدًا
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسانٍ بعينه عن تفاصيل حاله؛ فإن ذلك مما يكره المسئول غالبًا، وقد ثبت النهي عن الأغلوطات، وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادةً أو يندُر جدًّا، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطُّع والقول بالظن؛ إذ لا يخلو صاحبُه من الخطأ؛ فكره النبي ﷺ المسائل وعابها.
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [المائدة: ١٠١] فذلك خاص بزمان نزول الوحي، ويشير إليه حديث: «أعظم الناس جُرمًا عند الله من سأل عن شيء لم يحرم؛ فحرم من أجل مسألته»([1])،
وثبت أيضًا ذم السؤال للمال ومدح من لا يلحف فيه؛ كقوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: ٢٧٣].
وحديث: «لا تزال المسألة بالعبد حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعَةُ لحم»([2])، وفي «صحيح مسلم»: «إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة؛ لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو جائحة»([3])، وفي «السنن» قوله ﷺ لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله»([4])، وفي «سنن أبي داود»: «إن كنت لابد سائلًا فاسأل الصالحين»([5])،
وقد اختلف العلماء في ذلك، والمعروف عند الشافعية أنه جائزٌ؛ لأنَّه طلب مباح فأشبه العاريَة، وحملوا عليه الأحاديث الواردة على من سأل من الزكاة الواجبة ممن ليس من أهلها؛ لكن قال النووي في «شرح مسلم»: اتفق العلماء على النهي عن السؤال من غير ضرورة؛ قال: واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين، أصحهما التحريم؛ لظاهر الأحاديث،
والثاني يجوز مع الكراهة بشروط ثلاثة: أن لا يلحَّ، ولا يذل نفسه زيادة على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسئول؛ فإن فُقِد شرطٌ من ذلك حرم، وقال الفاكهاني: يتعجّب ممن قال بكراهة السؤال مطلقًا مع وجود السؤال في عصر النبي ﷺ ثم السلف الصالح من غير نكير، فالشارع لا يقرُّ على مكروه.
قال الحافظ: قلت: لعل من كره مطلقًا أراد أنه خلاف الأولى، ولا يلزم من وقوعه أن تتغير صفته، ولا من تقريره أيضًا، وينبغي حمل حال أولئك على السداد، وأن السائل منهم غالبًا ما كان يسأل إلا عند الحاجة الشديدة، وفي قوله: من غير نكير. نظر؛ ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم السؤال كفاية في إنكار ذلك. تنبيه: جميع ما تقدم فيما سأل لنفسه، وأما إذا سأل لغيره؛ فالذي يظهر أيضًا أنه يختلف باختلاف الأحوال([6]).
(ﺟ) «وإضاعة المال»: الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا؛ سواء كانت دينية أو دنيوية، فمنع منه؛ لأن الله تعالى جعل المال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح؛ إما في حق مضيِّعها وإما في حق غيره، ويُستثنى من ذلك كثرةُ إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يُفوِّت حقًّا أخرويًّا أهم منه، والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثةُ أوجه..
-
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعًا، فلا شك في منعه.
-
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعًا، فلا شك في كونه مطلوبًا بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة؛ كملاذ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين.. أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله؛ فهذا ليس بإسراف. والثاني: ما لا يليق به عرفًا، وهو ينقسم أيضًا إلى قسمين.. أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة؛ فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك؛ فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعيَّة إلى أنه ليس بإسراف؛ قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له. قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال. اه.
قال الحافظ: وقد صرَّح بالمنع القاضي حسين؛ فقال -في «كتاب قسم الصدقات»-: هو حرامٌ، وتبعه الغزالي، وجزم به الرافعي في الكلام على المغارم، وصحح -في «باب الحجر من الشرح»، وفي «المحرر»- أنه ليس بتبذير، وتبعه النووي، والذي يترجَّح أنه ليس مذمومًا لذاته؛ لكنه يفضي غالبًا إلى ارتكاب المحذور؛ كسؤال الناس، وما أدى إلى المحذور فهو محذور([7]).
(9) التثاؤب والكسل:
قال النبي ﷺ: «إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب.. وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان؛ فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع؛ فإن أحدكم إذا قال: ها؛ ضحِك منه الشيطان»([8]).
قال الخطابي: معنى حبِّ العطاس وكراهة التثاؤب؛ أن العطاس يكون مع انفتاح المسامِّ وخفة البدن وتيسير الحركات، والتثاؤب إنما يكون مع ثقل البدن وامتلائه وعند استرخائه للنوم وميله إلى الكسل؛ فصار العطاس محمودًا؛ لأنَّه يعين على الطاعات، والتثاؤب مذمومًا؛ لأنه يثبِّطُه عن الخيرات وقضاء الواجبات([9]).
(10) الاضطجاع على البطن:
عن أبي هريرة قال: رأى رسول الله ﷺ مضطجعًا على بطنه؛ فقال: «إن هذه ضجعة لا يحبها الله»([10]).
قال المباركفوري: «إن هذه»؛ أي هذا الاضطجاع، وتأنيثه لتأنيث خبره، وهو قوله: «ضجعة»، وهي بكسر أوله للنوع «لا يحبها الله»، وفي حديث أبي ذر عند ابن ماجه: «إنما هي ضجعة أهل النار»([1]).
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.
(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).
(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).
(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).
(10) «أدب الإملاء والاستملاء» لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبي سعد (المتوفى 562هـ) تحقيق: ماكس فيسفيلر ط1 دار الكتب العلمية - بيروت 1401هـ.