التائب هل يعود إلى ما كان عليه قبل الذنب؟

يرد إلى دافعه مالًا استعان به على معاصِي الله؟! وهكذا توبَة من اختلط مالُه الحلال بمال حرام، وتعذر عليه تمييزه؛ فعليه أن يُقدِّر الحرَام ويتصدَّق به، ويطهِّر بقية ماله، والله أعلم([1]).

(3) التائب هل يعود إلى ما كان عليه قبل الذنب؟

قالت طائفةٌ: يرجِعُ إلى درجتِه؛ لأنَّ التوبة تجبُّ الذنب بالكليَّة وتصيِّره كأنْ لم يكن.

وقالَتْ أخرى: لا يعود إلى درجتِه وحاله؛ لأنَّه لم يكن في وقوفٍ وإنما كان في صعود؛ فبالذنب صار في هبوطٍ، فإذا تاب نقَص منه ذلك القدْرُ الذي كان مستعِدًّا به للترقِّي.

قال شيخُ الإسلام: والصحيحُ أن من التائبين من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إلى أعلى منها؛ فيصير خيرًا مما كان قبل الذنب، وكان داودُ بعد التوبةِ خيرًا منه قبل الخطيئة([2]).

(4) التوبة النصوح:

قال تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾ [التحريم: ٨] الآية، وعن أبي موسى الأشعري I عن النبي ﷺ قال: «إن الله تعالى يبْسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنَّهار ليتوب مُسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها»([3])، وعن أبي هرَيْرةَ I قال: قال رسولُ الله ﷺ: «من تابَ قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه»([4])، وعن أبي عبدِ الرحمن عبدِ الله بن عمر بن الخطاب L عن النبيِّ ﷺ قال: «إن الله D يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ»([5]) والغرغرة هي بلوغ الروح الحُلْقوم.

والنُّصْحُ في التوبَة هو تخليصها من كل غشٍّ ونقصٍ وفساد، قال الحسنُ البصري: هي أن يكون العبد نادمًا على ما مضى مجمِعًا على ألا يعود فيه، وقال الكلْبي: أن يستغفرَ باللسان ويندم بالقلب ويمسِك بالبدن، وقال سعيد بن المسيّب: ﴿ﭗ ﭘ﴾ تنصحون بها أنفسَكم.

وقال ابنُ القيِّم: النصح للتوبة يتضمَّن ثلاثةَ أشياء.. الأوَّل: تعميم جميعِ الذنوب واستغراقُها؛ بحيث لا تدع ذنبًا إلا تناوَلته، الثاني: إجماعُ العزْم والصدق بكليَّته عليها؛ بحيث لا يبقى عنده تردُّدٌ ولا تلوُّمٌ ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرًا بها، الثالث: تخليصُها من الشوائب والعلل القادِحة في إخلاصِها، ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كَمَن يتوب لحفظِ حاجته وحُرمته ومنصبِه ورياسته، ولحفظ قوَّتِه وماله، أو استدعاء حَمْد الناس أو الهروب من ذمِّهم، أو لئلَّا يتسلَّط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزِه.

ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله D. فالأوَّل يتعلق بما يتوب منه، والثاني يتعلق بذات التائب، والثالث يتعلق بمن يتوب إليه؛ فنُصْح التوبة الصدق فيها والإخلاص وتعميم الذنوب، ولا ريْبَ أن هذه التوبة تستلزم الاستغفارَ وتتضمَّنُه وتمحو جميعَ الذنوب، وهي أكملُ ما يكونُ من التوبة.

وتوبة العبدِ إلى الله محفوفةٌ بتوبةٍ من الله عليه قبلها وتوبةٍ منه بعدَها؛ فتوبتُه بين توبتين من ربِّه سابقةٍ ولاحقة؛ فإنه تاب عليه أوَّلًا إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانيًا قبولًا وإثابةً، وذلك لقوله D: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ [التوبة: ١١٨]؛ فأخبر سبحانَه أن توبتَه عليهم سبقت توبتَهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين؛ فكانت سببًا مقتضِيًا لتوبتهم، وهذا القدْرُ من سرِّ اسميه «الأوَّل» و«الآخِر» فهو المعدُّ والممدُّ.

ومنه السببُ والمسبَّب، والعبد توَّابٌ والربُّ توَّاب؛ فتوبة العبد رجوعُه إلى سيِّده بعد الإباق، وتوبةُ الرب نوعان: إذْنٌ وتوفِيقٌ، وقبولٌ وإثابَةٌ. والتوبة لها مبدأٌ ومنتهًى؛ فمبدؤها الرجوعُ إلى الله بسلوك الصراط المستقيم الذي أمَر بسلوكه بقوله تعالى: ﴿ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ﴾ [الأنعام: ١٥٣]، ونهايتها الرجوعُ إليه في المعاد وسلوك صراطِه الذي نصبَه موصِّلًا إلى جنَّته؛ فمن رجَع إلى الله في هذه الدار بالتوبَة رجع إليه في المعاد بالثوابِ، قال الله D: ﴿ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾ [الفرقان: ٧١]([6]).

(5) اتِّهامُ التوبة:

من اتهام التوبة ضعفُ العزيمة، والتفاتُ القلب إلى الذنب الفيْنة بعد الفيْنةِ، وتذكُّر حلاوة مواقعته. ومنها طمأنينَتُه ووثوقُه من نفسه بأنه قد تابَ حتى كأنَّه قد أعطي منشورًا بالأمان؛ فهذا من علامات التُّهمة. ومنها جمودُ العين واستمرارُ الغفلة، وألَّا يستحدثَ أعمالًا صالحةً لم تكن له قبل الخطيئة([7]).

(6) علامات صحَّة التوبة:

منها أن يكونَ العبدُ بعد التوبة خيْرًا مما كان قبلها. ومِنها ألا يزالَ الخوفُ مصاحبًا له لا يأمَن مكرَ الله طرْفَةَ عيْن؛ فخوفُه مستمِرٌّ إلى أن يسمع قولَ الرسل لقبْض رُوحِه: ﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾ [فصلت: ٣٠] فهناك يزول خوفُه. ومنها انخلاعُ قلبه وتقطُّعُه ندَمًا وخوْفًا، وهذا على قدر عِظَم الجناية وصغرها، وهذا تأويلُ ابنِ عُيَيْنَةَ لقوله تعالى: ﴿ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ﴾ [التوبة: ١١٠].

قال: تقطُّعُها بالتوبة. ومنها كسرَةٌ خاصَّة تحصل للقلب لا يشابِهُها شيءٌ ولا تكون لغير المذنب، لا تحصل بجوعٍ ولا رياضةٍ ولا حبٍّ مجرد، وإنما هي أمْرٌ وراءَ هذا كلِّه، تكسِر القلبَ بين يدَيِ الربِّ كسرة عامَّة قد أحاطت به من جميع جِهَاته، فألقتْه بين يدَيْ ربِّه طريحًا ذليلًا خاشعًا([8]).

أولاً- التوبةُ من النكاح المحرم:

قال تعالى: ﴿ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ [البقرة: ٢٢٢].

وقد استفضْنَا بعضَ الشيءِ في الحديث عن هذه الآية في (التَّطَهُّر)، وبقي قوله تعالى: ﴿ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾.. قال السعْدي: أي مِن ذنوبهم على الدوَام([9]). وقال القرطبي: قيل: التوَّابُون من الذنوب والشِّرْك، قاله عطاءٌ وغيره.. فإن قيل: كيف قدَّم بالذكر الذي أذنب على من لم يُذنِب ﴿ﯝ﴾ على ﴿ﯟ﴾. قيل:

قدَّم لئلا يقنط التائبُ من الرحمة ولا يعجَب المتطهر بنفسِه؛ كما ذكر في آية أخرى: ﴿ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ [فاطر: ٣٢]([1]).

والتائبُ ليس بالضرورةِ مذنبًا، وإنما على كل إنسانٍ أن يتوبَ سواءً أذنب أو لم يُذنب؛ لأنَّ هذا غايةٌ من خلقِه، وقد قال الله سبحانه للنبيِّ ﷺ: ﴿ﰐ ﰑ﴾ [محمد: ١٩]، وهو معصومٌ ومغفورٌ له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر. ورُوِي عنه ﷺ أنه كان يتوب في اليوم مائة مرة([2]).

وقال الشيخ أحمد شاكر T: فقوله: ﴿ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾.. قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ وغير واحد: يعني الفرج. وفيه دلالة حينئذٍ على تحريم الوطء في الدُّبر. وقال أبو رَزين وعِكْرمة والضَّحَّاك وغير واحد: ﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ يعني: طاهراتٍ غيرَ حُيَّض؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾؛ أي: من الذنب وإن تكرَّر غشْيانه، ﴿ﯞ ﯟ﴾؛ أي: المتنزِّهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نُهوا عنه من إتيان الحائض، أو في غير المأتى([3]).

ثانيًا- البُكاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تعالى:

فعن أبي أمامة I، عن النبي ﷺ قال: «ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين؛ قطرة من دموع في خشية الله»([4]).

قال المناوي: «ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموع»؛ أي: قطراتها، فلما أضيفت إلى الجمع أفردت؛ ثقة بذهن السامع، نحو: كلوا في بطنكم، «من خشية الله»؛ أي: من شدة خوف عقابه أو عتابه([5]).

خلاصة هذا السبب:

على الرغم من أن التوبة من جميع الذنوب واجبةٌ، وأنَّ الذنوب التي يقع فيها العباد جدُّ كثيرة؛ إلا أنَّ محبة الله للتائبين جاءت في القرآن حول التوبة من النكاح المحرَّم مصاحبةً للتطهر منه، وكما قُلنا في التطهر أنه واجبٌ من كل حدَثٍ وخبث ظاهرٍ وباطن، فكذلك التوبة يجب أن تكون من كل ذنبٍ قلبيٍّ أو من فعل الجوارح، وأما الأنكحةُ المحرَّمة فكثيرةٌ؛ منها: الزنا واللواط والوطء في الحيض والنفاس، والوطء في الدبر، ووطء الدابَّة.. وغير ذلك.

وأن البكاء من خشية الله تعالى حتى تذرف الدموع من خشيته والخوف منه سبحانه، وعدم أمن مكر خير الماكرين؛ هي أحب شيءٍ إلى الله تعالى، وذلك لأن هذا بابٌ عظيم إلى فعل المأمورات واجتناب المناهي، وهو ما يحبه الله تعالى ويرضاه، والله تعالى أعلم.

(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).


(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).


بقلم /محمد صقر


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.